في عرف القانونيين تطلق مقولة (الدستور ابو القوانين) تعريفاً لمصطلح (الدستور)، وفي الحالة السودانية الراهنة حل محل الدستور مؤقتاً الوثيقة الدستورية الى حين قيام المؤتمر الدستوري الذي يصنع لنا دستوراً (دائماً)، بعض المهنيين المختصين وجهوا انتقاداتهم للوثيقة الدستورية ومهندستها ابتسام السنهوري وابدوا حولها عدة ملاحظات، من بينها تأمين الوثيقة على استمرار إلزامية المراسيم التي اصدرها المجلس العسكري، بالاضافة للضبابية المصاحبة لاعتبار مؤسستي القوات المسلحة والدعم السريع مؤسسة واحدة، زد على ذلك صمت الوثيقة عن القانون الجنائي لسنة 1991 م المستمد روحه من قوانين سبتمبر النميرية، وتحكم المجلس السيادي في تعيين رئيس مفوضية الانتخابات، كما اغفلت النص الصريح التفصيلي حول المواد المتعلقة بتعيين النائب العام ورئيس القضاء خلال الفترة الانتقالية وتمييع مبدأ الأستقلاليه، ومن المعلوم أن النيابة العامة تعتبر سلطة مستقلة مثلها مثل السلطة القضائية، كما منحت المجلس السيادي صلاحية تعيين رئيس مجلس القضاء الأعلى الذي لا يعيّن أصلاً بقرار من السلطات السيادية أو التنفيذية، وانما تحدد المناصب المشكلة للمجلس وهي رئيس القضاء والنائب العام ونقيب المحامين وعميد كلية القانون ورؤساء الأجهزة القضائية.
ما أضر بالوثيقة الدستورية هو استمرار اجراء العمليات الجراحية، بغرض الترقيع والتعديل والتبديل حتى قيل أنها قد استنسخت فاصبحت نسختين، ومن بين هذه التعديلات الغريبة تطبيق نظام الحكم الاقليمي على اقليم واحد ورهن بقية الأقاليم الأخرى الى حين المصادقة على مخرجات مؤتمر نظام الحكم، ذات الرمادية والتغبيش مورستا عند تكوين لجنة إزالة التمكين ذات الصلاحيات الواسعة، دون أن يكون هناك خطوط واضحة وفاصلة بينها وبين النيابة العامة، وهو تكرار لنفس خطأ النظام البائد عندما اعطى سيف تمكينه البتّار للطبيب العسكري الطيب ابراهيم محمد خير وزير العمل والاصلاح الاداري في ذلك الزمان المأساوي، واطلق يده لبتر وقطع ارزاق العباد دون تثبت أوتحقق ولا خضوع لمرجعية دولة القانون، فنحر المؤسسية في وضح النهار وشرّد الموظفين المنتمين للايدلوجيات المخالفة للجبهة الاسلامية، حكومة الانتقال مطلوب منها السير على طريق الشفافية وتمليك الشارع الثوري الحقائق، وأن تحل الأزمة الدستورية الناشبة بين النيابة العامة ولجنة ازالة التمكين على جناح السرعة.
أين الأموال المنهوبة والمستردة من قبل لجنة ازالة التمكين؟، هل اودعت خزينة البنك المركزي؟ وما صحة الخلاف بين وزير المالية ومقرر اللجنة؟، وهل طرحت الوظائف الشاغرة بعد إعمال سيف التفكيك للمنافسة العامة أم تم ملئها بكادر أحزاب قوى اعلان الحرية والتغيير؟، لا يجوز استبدال التمكين الحزبي بتمكين حزبي آخر ولايحق للجنة فعل ذلك لأن الثوار لم يمنحوها شيكاً على بياض، المال المسترد مكانه الطبيعي الخزينة العامة، والشواغر الوظيفية يجب طرحها للتنافس العام مع التمييز الايجابي لأسر الشهداء، والملاحقات القانونية للأصول التي بناها موظفو النظام البائد من المال العام بماليزيا ولندن ودبي وغيرها من المدن التجارية العالمية، تتطلب عقد مؤتمر صحفي تقدم بموجبه اللجنة تقريراً مفصلاً عمّا تم من اجراءات بخصوص الأسترداد، فضلاً عن تبيين ما جرى ويجري بشأن شركة السودان القابضة التي أسست قبيل ساعات من تعيين وزير المالية، والأهم من كل هذا وذاك الاجابة الصادقة عن السؤال: ما هو الفرق بين المفوضية ولجنة الازالة فيما يخص المهام والواجبات؟، أم هي مرحلة جديدة من مراحل الصراع البيروقراطي بخلق مؤسسات موازية كما كان يحدث في العهد البائد؟، ما يحدث بحكومة الانتقال أمر مثير للقلق حقيقة؟.
الأزمة الدستورية القائمة بين النيابة العامة ولجنة ازالة التمكينمن جانب، والمحامي نبيل أديب رئيس لجنة التحقيق في فض اعتصام القيادة العامة وهواجسه وتوجساته من حدوث انقلاب حال اعلانه لنتائج التحقيق من الجانب الآخر، جميعها مؤشرات دالة على وجود تعقيدات واخطاء جسيمة لازمت مسيرة البناء الدستوري الانتقالي الذي تمثله الوثيقة الدستورية المدمجة في اتفاق سلام جوبا، ما يحدث في الدولة السودانية من فوضى اصدار القرارات الكبرى وتداخل الاختصاصات بين المواقع الدستورية النافذة، وعدم التزام بعض الوزراء المؤقتين بخط سير استحقاقات الفترة الانتقالية، لابد وأن يكون سبباً كافياً لتورط منظومة الانتقال برمتها في متاهة مجهولة ينتهي نفقها بما لا يحمد عاقبته، فعندما يطفو صراع المؤسسات العدلية والقانونية والقضائية الى السطح احزم أمرك وكن رابط الجأش وهيء نفسك لأنهيار وشيك، فالدستور هو العمود الفقري الذي يضمن متانة ممسكات وحدة مؤسسات الدولة وبنية المجتمع، ما حدث من تضاد بين جهازين رئيسيين يعملان على انجاز مطلوبات جوهرية وأساسية من مطلوبات الثورة الا وهياجراءات ازالة جذور النظام (البائد)، يؤكد على تجذر هذه الأزمة الدستورية وأن النظام الذي يراد إزالته مازال قائماً.
اسماعيل عبد الله
7 مايو 2021