هناك أزمة منهجية في تعريف المصطلحات السياسية في الفكر السياسي السوداني، وهذا لأن هذا الفكر إلى حد كبير يخدم أطر سياسية معينة وليس بفكر منهجي علمي في الأساس. الشاهد أن مسألة الدولة الموحدة أو الوحدة الوطنية في السودان هي مصدر جدل رئيسي لكن على مستوى الحكم، فإن أطروحات الحلول لازمات ادارة الدولة السودانية، يبدو أنها تتجاوز الواقع إلى المتوهم الايدلوجي. فحقيقة واقع التنوع والذي تحول مع الدولة المركزية الأحادية إلى تهميش وانقسام وجداني وحتى انفصال سياسي واقتصادي يجعل نقاش إدارة الدولة يجب أن يتم بعيدا عن مصطلح الوحدة، وإنما قريبا من مصطلح الإتحاد.
على مستوى الصراع الدائر منذ الاستقلال من أجل حق الحكم الذاتي أو ما تطور ليصبح حق تقرير المصير للجنوب ومن بعده بقية المناطق المهمشة، فإن الدولة السودانية الأحادية المركزية كانت ولا تزال تطرح حلولا لإدارة الدولة بنظام المشاركة في الحكم وليس نظام الشراكة في الحكم. حيث أن الفارق بين الاثنين هو الحد الذي يفصل بين تحقيق سلام مستدام وبين تحقيق اتفاقات سياسية هشة. بالعودة أيضا إلى أطروحة الوحدة في مقابل الاتحاد فإن، المصطلحين أيضا يصنعان الفارق بين الاعتراف الكامل بالآخر وبين عدم الاعتراف به والرغبة في تذويبه أو إدماجه أو ربما التخلص منه إذا كان مهددا لما يسمى بالوحدة. أما الاتحاد فإنه يخلق اعترافا مباشرا بأن للآخرين كيانات ثقافية واجتماعية واطر سياسية أيضا يمكن خلق اتحاد معها، بما يكفل للجميع حقوقا متساوية وقدر عالي من الحرية والكرامة والمساواة، بينما الوحدة تحمل طابعا قسريا يفترض انعدام التنوع ويقضي على إمكانياته.
بالمقابل أيضا فإن أطروحات المشاركة في الحكومة التي ظلت تقدمها كافة النظم السياسية في المركز منذ ما قبل الاستقلال لها طابع سلطوي، يفترض مسبقا أن السلطة محتكرة من قبل مجموعة معينة وأن تلك المجموعة ستتكرم بمشاركة جزء من سلطاتها في الحكم مع الآخرين. وبالنتيجة فإن اتفاقات محاصصة المشاركة في السلطة على كل المستويات، ابتداءا من الأحزاب السياسية بكل توجهاتها يمينا ويسارا ومرورا بالحكومات المختلفة عسكرية ومدنية، فإن كافة تلك المشاركات في السلطة لفئات ومجموعات من الهامش، كانت مجرد مشاركات شكلية محكوم عليها بالفشل منذ البداية. حيث أنها اتخذت طابعا غلب عليه المصالح الفردية والانتهازية أكثر من المصالح الكلية للشعوب المهمشة. وحتي في تجارب اتفاقيات السلام التي فرضت شكل مشاركة في الحكم، بما فيها نيفاشا، فإن تلك المشاركة حملت جوهرها الذي كان يقوم بتمكين السلطة المركزية ويؤكد على أنها هي المحور الأساسي للسلطة وأنها فقط تتشارك جزءا من سلطاتها مع أطراف اتفاق السلام المعين. لذلك انتهت نيفاشا بالانفصال وانتهت قبلها أتفاقيات لا حصر لها بالنقض.
ان انعدام مبدأ الشراكة في الحكم على مستوى الدولة المركزية الأحادية وعدم طرح هذا المبدأ اساسا في الوعي السياسي في المركز هو الذي يفاقم من كوارث أزمة الحكم في السودان. فمبدا الشراكة مبنى على فرضية المساواة بين الأطراف المعنية وبالتالي فإن السلطة وشرعية الحكم هي عملية تشاركية متساوية لجميع المكونات السياسية والاجتماعية والثقافية في السودان، بالتالي ينتفي مبدأ الاحتكار المسبق، وتنتهي كذلك فكرة الهيمنة الأحادية وضرورة مركزية السلطة. حيث أن الشراكة في الحكم لا تفتح باب المحاصصة أو التمثيل الشكلي للهامش، بل يشكل الهامش شريكا سياسيا مساويا بكل مكوناته. ولن تكون السلطة وقتها كيكة تقتسم بل هي عملية إدارة دولة بمساهمة ومشاركة بشكل متساوي بين كل مواطني هذه الدولة.
للأسف أن نماذج الحلول السياسية المطروحة للأزمة السياسية وأزمة الحكم في السودان لا زالت حبيسة تجارب الماضي الفاشلة فكريا وعمليا. ولازال بعض الذين ينظرون لمستقبل الحكم في السودان يرون المخرج من زوايا المشاركة والوحدة، وليس من منظور الشراكة والاتحاد. حيث أن الفكر السياسي في المركز في كل المستويات في الحكومة والمعارضة يخشى فقد السيطرة على تطلعات شعوب الهامش في مزيد من الحرية والاستقلالية. ولكن واقع الأمر أن هذه الشعوب تأخذ استقلاليتها وتفردها الثقافي على محمل الجد ألي درجة الموت، حيث قاتلت ولاتزال هذه الشعوب تقاتل وتناضل رغم القمع والإبادة من أجل تلك الاستقلالية وتلك الحرية وذلك التفرد. ولذلك فإن أهم خطوات الخروج من أزمة الحكم في الدولة السودانية الأحادية المركزية في أي مشروع حكم مستقبلي انتقالي كان أو دائم، يجب أن يشمل منظور الشراكة في الحكم لا المشاركة، وان ياخذ في الاعتبار استقلالية وتنوع الشعوب السودانية وبالتالي يجب وضع منظور الاتحاد وليس الوحدة كمحور النقاش من أجل صناعة أرضية المصالح المشتركة التي يمكن أن تجمع السودانيين جميعا بشكل متساوي متحدين وليس بالضرورة موحدين. بحيث تكون الدولة السودانية المستقبلية اي كان شكلها مبنية على أسس الاختيار والتراضي حول رؤية المسيرة نحو المستقبل، دون افتراضات مسبقة وبدون رؤي أحادية مفروضة قسرا. وحتى نخرج من الدائرة المكرورة لمبرر أن الاستعمار هو الذي وضعنا في هذه الخارطة، علينا أن ندرك أن الاستعمار قد انتهي، و الآن امامنا فرصة كشعوب سودانية لإعادة كتابة تاريخنا باختيارنا وتقرير مصائرنا جميعا من جديد.