تجدد الجدل حول موضوع تقرير المصير عقب استقالة الأستاذ عبد العزيز الحلو عن مسؤولياته القيادية في الحركة الشعبية. وكان هو قد دعا إلى ضرورة تضمين الموضوع في التفاوض بالنسبة لشعب النوبة. وأتت خطوة الحلو انطلاقا من التحديات الجمة التي واجهت مشروع السودان الجديد عقب تحقيق اتفاقية نيفاشا التي قصد بها السلام الشامل وانتهت إلى دولة منهارة في الجنوب، وتخلق هلال من الحرب في الدولة الأم يشمل دارفور، وجنوب كردفان، والنيل الأزرق، وتضعضع العمل القيادي في الحركة المسلحة. ويبدو أن الحلو وبعض رفاقه لم يعتبروا من مأساة الدولة الوليدة التي رأت في تقرير المصير حلا للنزاع التاريخي الذي استمر نحو نصف قرن بعد الاستقلال. وبقراءة حال جنوب السودان اليوم يتضح لنا أن القادة الجنوبيين لم يمتلكوا القدرة على ترجمة مشروع السودان الجديد إلى واقع محسوس. وبدا كما لو أنهم ورثة لأدوات، وتركة، السودان القديم، إذ تجوهرت الديموقراطية عندهم بشكلانيتها، وتغيبت عنهم المؤسسية في تقعيد السلطة، وقصر نظرهم حيال التعاطي مع بناء الدولة، وفشلوا في خلق ماكنيزم خلاق للتبادل السلمي للسلطة. والحقيقة هي أن تصويت الإخوة الجنوبيين لاستفتاء تقرير مصير الجنوب، والذي أملته أحلامهم العريضة في مقابل إصرار الإسلاميين على ربط جهاز الدولة بخزعبلاتهم الدينية، لم يكن شيئا ممقوتا من الناحية النظرية في تقديرنا.
فلا وصاية على إرادة الشعوب في حال إحساسها بضرورة امتلاك قرارها في ظل تعرضها للاحتيال المركزي، كما هو شأن العلاقة التاريخية بين الدولة السودانية وبين مكوناتها الطرفية. ولكن المشكلة أن تقرير المصير نفسه قد انبنى في أوضاع انتقال أورثت الجنوبيين جغرافيا منهارة، وغيابا تاما للوضوح النظري في كيفية تحقيق الانتقال السلس للمحاربين من أوضاع الغابة المحكومة بقوانينها المعروفة إلى أوضاع الديموقراطية والحرية بأعرافها المطلوبة التي توجب قدرا من شفافية التعامل في بناء الدولة. فإدارة الحرب كما يقول خبراء في فض النزاعات أسهل من إدارة، وخلق، ثقافة السلام، ومساعي تعزيز التسامح وسط المكونات الاجتماعية المتصارعة. مثلما أن بناء الدولة في مجتمع التعدد الإثني أصعب من توحيد هذا التعدد لضرورات الحشد العسكري في ذلك الوقت الذي كانت فيه القضية الجنوبية تفرض تحالفا بين كل المنتمين لذلك الجزء المتضام مع سودان ما قبل الاستفتاء.
إذن لا خلاف مع كل القوميات السودانية الداعية إلى تقرير مصيرها عبر العرنوبية، أو الكوشية، أو السنارية، خصوصا أن لا أحد يملك الحق في كبت هذه الدعوات إذا انطرحت بأسانيد معرفية في فضاء التفكير السياسي. بل إن محاولة تخوين الذين يدعون إلى تقرير المصير تمثل استعلاءً ينبغي أن يلجم في حده. فالنقاش الموضوعي حول تقرير المصير، وتلك الدعوات الأخرى، ينبغي أن يسود بالشكل الذي يحفظ لكل الداعين إليها ومعارضيها قدرا من الاحترام ودون أن نمارس اتهامات متبادلة بالعنصرية هنا وهناك. والحقيقة أن لا فائدة لوحدة تنبني على قمع رأي واحد بينما يلوذ الرأي الآخر لحمل السلاح، أو دعم الحكومات القاتلة، وبالتالي يبلغ الضرر مداه في كل البلاد. وقد تابعنا ملابسات هضم حقوق الجنوبيين في الفيدرالية غداة الاستقلال، وما لبث أن تتطور حق المطالبة إلى نشدان تقرير المصير. ولكن بعد أن فقدت الدولة المركزية كل مواردها في مهرقة الجنوب، مع أهدار الملايين من الدماء من الجانبين. وقد دفع شعب السودان ثمنا باهظا إلى أن تم التوصل إلى سلام نيفاشا، وما هو بسلام.
فليخرج الداعين إلى تقرير مصير الشعوب السودانية بأي تصور كان في الهواء الطلق، وليكن السجال معهم بالشكل الذي يساعدنا على فهم منهجيتهم، ومبرراتهم الموضوعية، على أن نقابلهم بما لدينا من مبررات عقلانية. بل يتمنى المرء أن يفتح السودانيون منابرهم في الخارج والداخل بكل شجاعة لمحاورة الداعين إلى تقرير المصير، أو العرنوبية، حتى نبني تراثا من الجدل الوطني الذي يفيدنا في مستقبل التغيير المنشود. وهذا أنفع لنا من أن تبقى هناك دعوات تقرير مصير مكبوتة في الأنفس بالشكل التكتيكي لقادة هذه الحركة المسلحة، أو التيار السياسي، أو الجماعة السياسية، أو الحكومة نفسها، إذ كان فصل الجنوب ضمن خيارات الجبهة الإسلامية القومية قبل تمكنها في السلطة. وبالتالي ينبغي أن ننظف آذاننا لسماع هذه الدعوات حتى لا تظهر يوما في السطح وتحرج المتحالفين معها، أو تعرقل المشاريع السياسية المتحالفة من الوصول إلى دولة الوحدة. ولعل توصل الجنوبيين إلى تقرير المصير عبر الاتكاء على تحالفات سياسية مع أحزاب، ورموز وطنية، في الشمال أدى إلى غبن كبير . وقد تبخرت كل مجهودات التجمع الوطني للتحالف مع الحركة الشعبية حين أخرجت كرت تقرير المصير في اللحظات الأخيرة، وما يزال هناك سياسيون نادمين على تحالفهم السابق مع الحركة الجنوبية، وبعضهم يظن أنها تركتهم في منتصف الطريق ووقعت نيفاشا التي وثقت حق الاستفتاء.
إذا أخذنا نموذج دول إريتريا، وجنوب السودان، وإلى حد ما اليمن الجنوبي، نلاحظ أن القاسم المشترك بينهم هو انسداد الأفق السياسي لنخب هذه الدول الوليدة. ففكرة تقرير المصير لن تكون حلا لبعض دول العالم الثالث في ظل أنانية نخبها. وإذا كانت الدولة الأم التي تملك كل مقومات التطور من موقع إستراتيجي، وقدرات إدارية، وعلاقات دولية، ودرجات وعي سياسي، ونخب متعلمة في كل المجالات، قد فشلت في تحقيق نهضتها، فكيف للدولة الوليدة التي ترثها النخب نفسها من تحقيق الاختلاف؟. ففي حالة إريتريا، وجنوب السودان، فإن الذين ورثوا الدولة كانوا قد تشبعوا بغياب الشفافية في بيئاتهم النضالية، ولذلك لم يكن ليمتلكوا القدرة على صنع شئ بديع للحاضر، والمستقبل. وهذا ما نخشاه للإخوة في الحركة الشعبية المطالبين بتقرير المصير. فبخلاف أنهم دون غيرهم هم الذين سيرثون الوضع الانتقالي لجنوب كردفان إذا تمكنوا من الحصول على هذا الحق، فإن لدى الدولة المركزية كامل القدرات اللوجستية لتكرار تجارب حربها الخفية لجنوب السودان الوليدة، والاستفادة من فكرة ضرب وحدة الحركات المسلحة في دارفور، لتمزيق عموم المكون الإثني في جنوب كردفان. ففسيفساء المكون المجتمعي في المنطقة هو التعدد بعينه في أرض النوبة التاريخية، ولا بد أن الحكومة لديها جيوبها هناك ما يسهل تحريكهم حتى تنتهي جنوب كردفان إلى مهرقة جديدة ربما تكون فتنة الحرب فيها أفظع مما حدث في دارفور، وجنوب كردفان، ولاحقا جنوب السودان.
وأرجو ألا ينشغل الإخوة المنادين بحلم انفصال جنوب كردفان دون مراجعة تلك القدرات اللوجستية لدولة المؤتمر الوطني في تفجير كل اتفاق مع المكونات السياسية الأخرى. بل إن السلطة بطبيعتها تستميل الرفاق، أو تستقطبهم، مهما قضوا سنوات في رفقة زملائهم في الميدان. ولعلنا إذا ألقينا نظرة على الحركات المسلحة فإن الاستقطاب السلطوي جعلها نثارات لا تبقي ولا تذر فيما فقدت الحركات الناشطة الآن الآلاف من كوادرها الذين يغذون قوة السلطة التي حاربوها الآن. وقد أبان حوار الوثبة أن عددا هائلا من القياديين في هذه الحركات تحول إلى أعداء حقيقيين لرفقاء السلاح، وبعضهم حارب ضد رفقاء الأمس ضمن صفوف مليشيات الحكومة. بل إن عددا مقدرا من كوادر الحركة الشعبية قطاع الشمال قد تم استقطابهم من أمثال دانيال كودي، وتابيتا، ولام أكول، ومشار، لصالح تفجير مشروع الحركة الشعبية نفسها. وإذا كان الأمر كذلك فما الذي يمنع من استفادة الدولة المانحة لتقرير المصير عبر اتفاق من تبييت النية لضرب أسفين الوئام وسط رفاق الحركة الشعبية، قطاع الشمال، حال حصولهم على دولتهم الوليدة؟ وهل منعت العلاقات المتينة بين دولة الجنوب الوليدة وبين المجتمع الدولي من أن تتفجر داخليا من خلال تغذية حكومة المؤتمر الوطني للصراعات الإثنية فيها، وتوفير الدعم اللازم لرياك مشار وصحبه لإسقاط سلطة الحركة الشعبية في الجنوب.؟
مع كل احترامنا وتقديرنا لدعوة تقرير المصير التي نادى بها قطاع عريض من المناضلين بالسلاح من أهلنا النوبة إلا أن الأحلام المشبعة وحدها في محيط مضطرب عرقيا وجواريا لا تجدي. ولعل تعاطفنا مع كل الشعوب المقهورة في بلادنا لا تثنينا من الاختلاف معهم حول رجاحة الدعوات الظاهرة والمستبطنة لتقرير مصير الشعوب. فالحل الوحيد لكل الحالمين بالانفصال في دارفور، وكردفان، والشرق، والشمال، والوسط، يكمن في مواصلة النضال من أجل خلق دولة المواطنة التي تحقق السلام، والاستقرار، والتقدم، والتسامح، والعدالة، وتقتض لكل المظالم. والحقيقة أنه لا يوجد ثمة حل نظري أفضل من دولة المواطنة، بل لا يوجد حل أفضل من أن يجد السوداني الفرصة للعيش في أي منطقة في السودان، والاجتهاد لتطوير نفسه من خلال التوطن فيها. وربما كان الترحال عبر مختلف مناطق السودان حلا عبقريا لكل المواطنين الذين عانوا من غياب التنمية في مناطقهم، فنزحوا إلى الجنوب البعيد حتى، وتزاوجوا وتصاهروا فيه، وتملكوا أيضا، واثروا من خلال التجارة.
ولعل كل أهلنا من جبال النوبة اليوم يعيشون في كل مناطق السودان ويمتلكونه مثلما يمتلك الدارفوري في بورتسودان مغلقا، ويتصاهر فيها، ومثلما يتوطن الشايقي أو الدنقلاوي في نيالا وتصبح ذريته من أعيان المدينة، وكما يهاجر الشكري إلى جنوب كردفان ويبقى هناك بأسرته ويصبح شيخا، وهناك من هجر بادية كردفان ليستقر في أمدرمان ليصبح بعض ذريته قادة في الخدمة العامة. وهكذا أبدع المواطنين السودانيون من كل بقاع السودان في تقرير مصيرهم في أرض السودان الواسعة وفتح الله عليهم. ويجدر بنا أن نرى إبداع أهلنا النوبة المهمشين سياسيا والناجحين في الرياضة، مثالا. ألم يكن معظم كباتن وأعمدة الهلال والمريخ والموردة والفرق الأخرى والفريق القومي من أهلنا النوبة ما يؤكد جدارتهم بقيادة السودان في حال وجود دولة مواطنة تحقق العدالة والمساواة، وأي مصير يقرر للسودان كله بدون مجهودات أبناء النوبة التاريخية، والذين ينتشرون في كل ربوع السودان بعطائهم السخي، وهم أكثر القوميات السودانية التي تتملكها روح وطنية يندر أن يماثل؟.
فليكن بناء السودان الحديث عبر نضالات أبناء النوبة جميعا، وليكن وجودهم متقدما في ظل وطن يعيد لهم حقوقهم المسلوبة بعد النضالات المستمرة التي خاضوها لتحقيق دولة المواطنة. وآمالنا أن تتوحد صفوفهم ويتجاوزوا خلافاتهم التي يوظفها المؤتمر لتوطيد مشروعه المهزوم. وعلى الإخوة في الحركة الشعبية أن يراعوا لأهمية التوصل لتقاهمات وتنازلات عبر حوار راقٍ يحقق التجانس في قيادتهم، ونأمل أيضا ألا يسهم الخلاف القيادي في الحركة لإضعافها أو تمزيقها لكيانين، فلا شئ يفرح المؤتمر الوطني أكثر من رؤية دعاة السودان الجديد وقد تناثروا إلى تيارات ضعيفة كما هو حال مؤسساتنا الحزبية.