كثيرون يدركون أن الدرجات العلمية العليا تُمنح أساسا لتطوير المباحث الأكاديمية. وذلك يعني أنها ترقية في عرصات العلم المعني بما يكفل تثوير العلوم على الدوام. ولكن المبادرين بإنشاء الدرجات العلمية هذي، أبدا، لم يكن هدفهم أن يصير اللقب منحة للامتياز الاجتماعي في ساحات السياسة، أو الدين، أو الرياضة، أو الفن. ويدرك هذا تماما من حازوا على الشهادات العليا. وفي العالم الثالث الذي صارت فيه هذه الدرجات منازل اجتماعية أكثر من كونها أكاديمية، وحيث لا تتوطن شفافية للنخب، نشأت ثقافة أساسها أن الحاصلين على الألقاب المتقدمة سواء في مجال الكيمياء، أو طب الحشرات، أو غسل الجنازة، أو التجميل، ينبغي أن ينالوا أيضا امتيازا في المجال العام بمثل الذي حازوا عليه في مدارج العلم. وللأسف فإن معظم هؤلاء الذين حصلوا على هذه الدرجات العلمية توقفوا عن تقديم المباحث بعد نيل هذه الدرجات، وكأنما أن الهدف لم يكن أصلا مواصلة البحث الحر في المجال المحدد، أو التدريس في الجامعة حتى تستفيد الأجيال من قدراتهم، ويكون لدرجتهم العلمية معناها الحقيقي. والأنكى وأمر أن هناك فئة عاشت في الغرب ولم تحز على شهادة الدكتوراه ولكنها تصر على أن يكون اسمها أكثر التصاقا بالدال. وتراهم عائدين إلى البلاد ليقوموا بخداع الحكومات لتوظيفهم. وهناك فئة في الداخل حازت في ظل غياب الشفافية على درجة الدكتوراه دون أدنى مجهود، وبعض أركانها التحق بالتدريس وترقى إلى درجة عميد.
ربما كان هؤلاء النفر من الناس قد قرروا أصلا اللحاق بقطار زملائهم الذين استفادوا من اللقب مجتمعيا، خصوصا أن ثقافة النخبة التي وطنتها لا تختلف عن سياسة مجتمع بعض البقارة. فكلما امتلكت الآلاف من الأبقار كان حظك عظيما في مجلس الرأي السديد والتداول الحكيم في فضاء برلمان الفريق. والحقيقة المرة أن عدد العلماء السودانيين الذين حصلوا على هذه الشهادات العليا ممن تتسنى لهم الكتابة في الدوريات العالمية لا يتعدى أصابع اليد. بل إن عددا مهولا مما نسميهم الخبراء، والمستشارين، في أدق تفاصيل حياتنا العامة لم يسبق لبعضهم أن نشر بحثا ذي قيمة في الدوريات الإقليمية حتى. أما الذين ينمون البحث عبر الدوريات السودانية فإن مشكلتهم كبيرة، إذ إن جامعاتنا لا تحفل بنشر أبحاثها التي لها علاقة لها بالواقع المعاش. وهاهنا تبدو هذه الجامعات، خلافا لما نشاهده في دور العلم في العالم المتقدم، معزولة عن سياسة المجتمع، واقتصاد المجتمع، وثقافة المجتمع، وسوق المجتمع، وعمران المجتمع، وفن المجتمع. وأذكر أن الفنان زيدان المعروف بسخريته وصف مرة معهد الموسيقى والمسرح بشارع الدكاترة، منتقدا الذين لم ينتجوا في مجال الموسيقى، والغناء، والبحث. ورغم الكلمة الجارحة من الفنان الراحل إلا أنه أراد تنبيهنا إلى هذا العدد المهول من الحاصلين على درجة الدكتوراه في الموسيقى الغناء والمسرح. وقصد أن يقول لهم إن عبرة الخلود الفني ليست بالدال، وإنما بالإنتاج، وتقديم البحث الكثيف عن ما لا نعرفه عن أسرار موسيقانا وغنائنا.
ولكن ما لا يعرفه زيدان أن النشر الجامعي آخر اهتمامات من يضعون الميزانيات. فأفضل الذين عرفوا في مجال الاهتمام بمجال النشر الثقافي هو زهير حسن بابكر، الحاصل على درجة الأستاذية في مجال الآثار. ولكن أحالوه للصالح العام رغم أنه كان من أميز من قدموا تجربة فريدة في النشر الأكاديمي، والثقافي، وأقام معارض المليون كتاب التي جلبت الملايين من الدولارات للجامعة. وكان يرافق المعارض بفاعليات ثقافية سنوية ضمت أبرز رموز الأدب في العالم العربي، ولذلك شاهدنا هناك أدونيس، ومحمود درويش، ومظفر النوب، وهم يقدمون أمسيات قيمة في السودان. وقد علمت لاحقا أن زهيرا كافأته بلاده بالاعتقال لسنوات بعد أن أسس دار الخرطوم للنشر، وتعرض لأسوأ محنة جعلته بعيدا عن الجامعة، والمجتمع، ومجال النشر الذي أبدع فيه. والآن يعاني زهير وزملاؤه في هذا المناخ بينما يصبح السلفيون المتطرفون الذين درسوا في جامعة أم القرى عمداء في جامعة الخرطوم.
-2-
إن معالجة موضوعنا شائكة في ظرف ينال فيه القذافي درجة الدكتوراة الفخرية من جامعة الخرطوم وتقام فيها قاعات بأسماء أشخاص مشبوهة مصادر أموالهم. وأذكر أنني راجعت مديرا سابقا لجامعة الخرطوم في ما خص موقفه من سياسة الإنقاذ، فانبرى أحد تلاميذه الحاصلين على درجة علمية متقدمة في مجال البستنة ليوبخني كيف أنه جاز لي انتقاد بروفيسير في مجال التاريخ لمجرد نيله عضوية الحوار الوطني. والحقيقة أنني في مقالي ذاك كنت أقدم تساؤلا هادئا، نعم مجرد تساؤل، عن علاقة العلم بالأخلاق، وموقف الذي تقلد الوظيفة الأكاديمية الكبيرة من الديموقراطية، والحريات، والتخريب المتعمد الذي نالته جامعة الخرطوم تحت سمع وبصر من أدارها. ويبدو أن ذلك “البروفيسير” قد أخذته حمى التعصب لأستاذه وأراد أن يقدسه بالشكل الذي يدفع دونه سهوم النقد كما تصورها. ولعل هذا التصرف نفسه أمر مفهوم. فنحن دائما في المجال العام ننتقد البعيدين ولكنا ندافع عن أساتذتنا، والأصدقاء، والأقارب حين يخطأ أحدهم. فيمكنك أن تسلق نافع علي نافع بألسنة حداد، وتسميه أب عفين، ما دام لا تربطك به صلة نسب، أما ابنك فتتمنى له التوفيق والسداد في مهمته الرئاسية!.
أما في مجال الكتابة والإعلام فنشاهد ابتذالا عظيما للدرجات العلمية والمهنية سواء كان ذلك يتمثل في استباق الاسم بلقب البروفيسير، أو الدكتور، أو المهندس، أو الفريق، أو اللواء، أو المحامي، أو السفير. وما من شخص وجدته شفافا، ومتمثلا لتقاليد النشر الأخلاقية في هذا المجال، مثل الأستاذ بدر الدين الهاشمي، الحاصل على درجة البروفيسير. فهو ينشر مقالاته دون أن يذيلها بالألقاب الأكاديمية وهو الذي قدم للمكتبة السودانية سفرا عظيما عن ما جاء في المدونات الغربية عن السودان. وما يزال الهاشمي يكتب أسبوعيا ترجمات قيمة دون أن يدرك القراء درجته العلمية. والغريب أن بعض الكتاب لا يكتفي بلقب واحد وإنما يردفه بلقبين علميين أو مهنيين، أو ثلاثة أو أربعة، وأحيانا لا تكتفي الكاتبة بسبق اسمها بالدرجة العلمية وإنما تضيف المهنية أيضا. وأذكر أنني وقعت على مقال رأي لمتقاعد فكاد أن يختفي اسمه منه. فقد ذيل الأستاذ الكريم اسمه هكذا: “أ، الدكتور، المهندس، اللواء أركان حرب، السفير محمد علي صغيرون”. أما شعراؤنا، وأدباؤنا، الذين يقدمون لنا الروايات، والدواوين، فإنهم لا يعملون بنصيحة قتل الدرجة العلمية عند الغلاف، فتراهم يعرفون قارئ الرواية، أو الشعر، بأنهم أيضا محامون، أو دكاترة، أو بروفيسيرات. ولذلك يجب عليك عزيزي القارئ أن تدرك هذه الحقيقة بينما أنت تتصفح هذا الأدب الذي كتبه هؤلاء الأشخاص الرفيعون المقام. والسؤال الذي ينطرح هنا ألا يكفي النص بذاته عن الديباجة التعريفية أم أن القصيدة أو المقال لهما علاقة بشخص يملك منهجية متعددة وبالتالي يصعب علينا نقده إن لم نكن مثله في الخلفية العلمية والمهنية؟ والسؤال الآخر هل يسبق هؤلاء أسماءهم بتلك الخلفيات المهنية من أجل أن يفيدونا برجاحة رأيهم، أو أدبهم، أمام من يكتبون أسماءهم حافية. وبمعنى آخر ما هي علاقة الإبداع الكتابي بالدرجة العلمية؟
-3-
إذا تقصينا أبعاد التحرير الصحفي فالأمر أسوأ من المحيط إلى الخليج. ولأن صحافتنا نشأت على اعتاب المصرية. فقد ظلت المقالات تذيل بدرجة الكاتب الأكاديمية، أو المهنية، أما كتابة الأخبار فإنها لا تقوم على قاعدة مهنية في كثير من الأحيان. وعلى وزن فخامة الرئيس مفدي الأمة وحامي حماها تقدم أخبار الرئاسة. وأياك أن تنسى لقب الفريق، أو المشير، حين تستطرد أثناء الخبر، فربما تجد نفسك في الشارع إن صدرت الصحيفة في اليوم التالي وفي صدر مانشيتها غياب الإشارة للدرجة المهنية، أو العلمية، للرئيس، أو الوزير. أما درجة دكتور، أو لواء، أو مهندس، أو شيخ، فلا يتم الاكتفاء بها فقط وإنما يمتلئ الخبر كله باللقب. والمدهش أنه يمكنك أن تحصي عدد اللقب خمسة مرات في خبر صغير لا يتجاوز فقرتين.
على طول المنطقة وعرضها لم تشذ عن هذه الانتهاكات المهنية سوى صحيفة الحياة اللندنية الرصينة في أخبارها، وحواراتها، ومقالاتها. ففي عهد رئيس تحريرها جهاد الخازن، وهو حاصل على درجة دكتور، قررت التخلي عن إيراد الألقاب العلمية في الأخبار والمقالات. إذ تكتفي بتعريف محمد عابد الجابري، إذا نشرت له مقالا، كأن تكتب في نهاية المقال: عميد كلية الفلسفة بجامعة محمد الخامس، مثالا. ويحضرني هنا أن وزيرة خارجية أميركا السابقة غونزاليزا رايس قد حازت على شهادتي دكتوراة ولكننا لم نقرأ في الواشنطن بوست، أو النيويورك تايمز، أو نسمع في السي ان ان، أو أي قناة أخرى، أن اسمها سبق بلقب أو باللقبين معا، كما كانت تفعل الصحافة المصرية التي تتناول أخبار الدكاترة زكي مبارك. والواقع أن تراث الجامعات الأميركية، والغربية عموما، يخلو من ابتذال الدرجات الأكاديمية في المجال العام، بل إن هذه الجامعات العريقة مثل هارفارد، وييل، وبرينستون، وكورنيل، لا تسبق في دورياتها العلمية اسم الباحث بدرجته الأكاديمية مطلقا، وإنما تعرفه فقط في ذيل البحث إن كان عميدا يوما، أو مؤلف كتاب ذائع الصيت. وإذا بحثت في كل أرشيف الكونغرس فلن تجد البتة مقالا لنعوم تشومسكي، أو هنري كيسنجر، مسبوقا بدال. أما إذا كتب جورج بوش مقالا للصحيفتين العريقتين فإنه يجب أن يعلم أن مقاله قابل للمراجعة اللغوية، ويحتمل إعادة صياغة الجمل بما يتماشى بالأسلوب اللغوي للصحيفة، على ألا يحلم بتعريف في ذيل المقال سوى بتعريف رئيس سابق للولايات المتحدة.
إن الفضيلة الأخلاقية تتطلب من نخبنا، خصوصا التي تنشط باتجاه التغيير نحو الديموقراطية، وإعلاء الشفافية في الممارسة العامة، وتوطين التنوير، أن تضاعف نموذج الهاشمي المتسق مع ذاته، ومهنية الكتابة، وأن تكتفي فقط بحصر استخدام درجاتها العلمية في مدارج الجامعات لا أن تتنزل به إلى الساحات العامة لتحقق ما تفترضه امتيازا. وأناشد أولا جميع أصدقائي الدكاترة أن ينشروا مقالاتهم، أو أشعارهم، أو روايتهم، بلا تذييل بأي درجة علمية وليكون رهانهم فقط على المضمون الذي يطرحونه للقراء الكرام. وبذلك يكونوا قد حققوا نقلة مثالية في توطين الشفافية في مجال العمل العام، وأثبتوا صدقا في مساعيهم النبيلة لرفع درجات الوعي السياسي، والاجتماعي، والثقافي.