عقب تعذُّر اجتماعها بمُستشفى بحري، قَرَّرت لجنة الأطباء المركزية في اجتماعها بالخرطوم تمديد رفع إضرابها لأسبوعٍ آخر، تبعاً لاستجابة العصابة الحاكمة لبعض مطالبها. وكانت اللجنة قد أَنْهَتْ أطول إضراب للمُؤسَّسات الصحية السُّودانية، وهو الثاني للأطباء منذ سَطْوْ المُتأسلمين على السُلطة عام 1989، حيث استمرَّ الإضراب للفترة 6-13 أكتوبر 2016، مصحوباً ببعض المطالب، أبرزها تهيئة وتحسين بيئة العمل وشروط الخدمة بصفةٍ عامَّة، وتوفير المُعينات الطبية والأدوية المُنقذة للحياة، وإصدار التشريعات والقوانين اللازمة لحماية الطبيب، عقب سلسلة من الاعتداءات الجسدية واللفظية ضد بعض الأطباء.
في المُقابل، تَعَدَّدت ردود أفعال المُتأسلمين وأزلامهم تجاه هذه الخطوة المُفاجئة، بدءاً بمُضايقة الأطباء المُضرِبين داخل الاستراحات وفَضْ اجتماعاتهم بالقُوَّة، ومَنْعْ لافتات وبوسترات الإضراب داخل المُستشفيات، وانتهاءً بالاعتقال والفَصْل من العمل، وعدم احتساب الفترات التي قضاها مُضرِبي الخدمة الإلزامية من خدمتهم، وغيرها من التهديدات والمُضايقات. ولم يَنْسَ المُتأسلمون ما (جُبِلُوا) عليه من كذبٍ وتضليل، مُستعينين بإعلامهم الذي لا يعرف قيمة ولا أخلاق، وإطلاق أبواق (الساقِطِين) لاستحقار الإضراب، تارةً بوصفه بـ(المطلبي) لخلق هُوَّة بين المُضربين وبقية الشعب، وأُخرى بنشر تجاوُزات بعض مُنتسبي عصابتهم المأفونة لإلهاء العامَّة، وصَرْفْ أنظارهم عن الإضراب وإضعاف تفاعلهم معه، فضلاً عن نشر المعلومات الكاذبة عن حجم ونِسَب تنفيذ الإضراب، لتثبيط هِمَمْ الآخرين وغيرها من أساليب تضليلهم المعهودة. هذا بخلاف الـ(غَدر) الفاضح لما يُسمَّى (مُؤتمر شعبي)، حينما أمر كوادره الطبية بكَسْر الإضراب، بما يُؤكِّد أكذوبة ما يُسمَّى مُفاصلة، ويُعزِّز القناعة بأنَّهم عصابة واحدة تستعدي كل ما هو سُّوداني! وسواء كان هذا أو ذاك، فهي جميعاً ردود أفعال إسلاموية (خائبة) وتفضح أفعالهم المُتناقضة، كظهور الأجهزة والمُعدَّات الطبية في أقلَّ من يوم من بدء الإضراب، وتفسيراتهم المُخجِلَة بشأن هذا الظهور المُفاجئ لتلك المُعدَّات والمُعينات، والذي كان (ولا يزال) بحاجة إلى مُساءلة ومُحاكمة جنائية، تبعاً للذين لقوا حفتهم نتيجة لغياب تلك الأجهزة والأدوات! ومن أفعال المُتأسلمين المُتـناقضة أيضاً، جلوسهم (صاغرين) مع لجنة الأطباء المركزية، وإقرارهم بوجودها وشرعيتها ومُناقشة طلباتها وتقديم الوعود بتلبيتها، رغم مُحاولاتهم الفاشلة لتحجيمها ووأدها بمُمارساتهم المُخْجِلَة التي ذكرنا بعضها أعلاه.
وبعيداً عمَّا فعله المُتأسلمون، قد يكون مُفيداً الوقوف عند بعض الحقائق والاستنتاجات المُتمخِّضة عن هذا الإضراب، وتأمُّلها بعناية ومنطق والاستفادة منها والاعتبار بها. ويأتي في مُقدمة هذه الحقائق، مُساهمة الإضراب في كَسْرْ الخوف الذي زرعه المُتأسلمون في الشعب السُّوداني عموماً، والأطباء على وجه الخصوص، كنتيجة للإجرام الإسلاموي السافر ضد إضراب الأطباء الأوَّل عام 1990، بجانب إجرامهم المُتواصل ضد كل ما هو سُّوداني، وآخرها (ثبوت) استخدامهم للأسلحة الكيماوية بدارفور، وقبلها دَفْنْ النفايات المُسَرْطَنَة والقتل بالبراميل المُتفجرة والرصاص المُباشر، واستخدام مادَّة السيانيد القاتلة وغيرها من أنواع الإجرام. فالإضراب الطبي الماثل أعاد ثقة الشعب السُّوداني بذاته، وبَرَهَنَ (عملياً) على نَجَاعَتِه كأُسلوبٍ (فعَّال) يدعم مع بقية الأساليب نيل الحرية والانعتاق من براثن العصابة الحاكمة. أمَّا الحقيقة الثانية، فتتمثَّل في (تحريك) وتنشيط الوعي بالحقوق، وتفعيل دور التكتُّلات المهنية في هذا الجانب، حيث نجح الأطباء (بامتياز) في إيجاد جسد نقابي يُمثِّلهم بحق، وأجبَروا المُتأسلمين على الإقرار به والتعامل معه والاستجابة لطلباته، أياً كانت هذه الطلبات، وذلك عقب (فَشَل) اتحاد الأطباء الإسلاموي في كَسْرْ الإضراب وتفكيك الجَسَد النقابي الذي رعاه (لجنة الأطباء المركزية)، ويُؤكِّد، من جهةٍ ثانية، (هَشَاشة) التكتُّلات الإسلاموية وإمكانية تدميرها بأجسادٍ وتكتُّلاتٍ نظيرة، إذا توفَّرت الإرادة والصدق لدى بقية القطاعات المهنية والشعبية الأُخرى.
الحقيقة الثالثة المُتمَخِّضة عن الإضراب الطبي، تتمثَّل في تَوَهَان ما يُسمَّى (قادة) الأحزاب والكيانات السياسية (مدنية ومُسلَّحة)، الذين أثبتوا أنَّهم قليلو الحَيْلَة وعاجزون، ويفتقدون الإرادة و(الجدية) لإنقاذ البلد وأهلها، بعدما اكتفوا ببياناتٍ هزيلة آخرها الأُسبوع الماضي، والذي لم يحمل جديداً رغم اجتهادهم في (دغدغة) المشاعر ببعض المُفردات الحماسية والثورية! فالمُتأمِّل في روح البيان، يجده عبارة عن أُمنيات وآمال دون تهيئة (مُقوِّمات) تحويلها لواقع، ومن ذلك توقيع البيان بأسماء شخصيات مُعيَّنة دون ذِكْرْ صفاتهم التنظيمية بكياناتهم وأحزابهم؟ فما الذي مَنَعَهُم من (ذِكْرْ) كياناتهم ومناصبهم فيها ليأخذ البيان صفة (رسمية) و(إلزامية)؟ أم تُراهم أرادوا الإيحاء بأنَّ التغيير المنشود والعمل السياسي (مُرتبط) بالشخوص دون (المُؤسَّسات)؟! وهل يعتقد المُوقِّعون أنَّ السُّودانيين بحاجة (لمُناشدات) ليخرجوا ويصنعوا التغيير ثم يُسلِّمونهم السُلطة هم وأُسرهم وموالييهم ليُكرروا (فشلهم) المعهود منذ الاستقلال؟! أين استراتيجيات و(رُؤى) أُولئك الموصوفين بـ(قادة) لإحداث التغيير وإدارة الدولة لما بعده؟ وأين هم من أدوارهم الأصيلة في هذه العملية (الحتمية)؟!
للأسف الشديد، كرَّر الموصوفين بــ(قادة) و(رموز) مسرحياتهم العبثية المألوفة، وعينهم على فتات المُتأسلمين وما تجود به أياديهم المُلطَّخة بدماء أهل السُّودان من منافعٍ ماليةٍ وسُلطوية! فقد ثَبُتَ (عملياً) أنَّ (قادة) كياناتنا السُّودانية يستغلُّون أي حراكٍ شعبي، سواء كان جماعياً أو فردياً لتلبية أشواقهم (الذاتية)، دون حياءٍ أو تأنيبٍ لذواتهم المُغامرة واللاهية، وليتهم نجحوا في هذه المُغامرات وإنَّما فشلوا كعادتهم! حيث لا يُخطِّطون لتحقيق غاياتهم وبلورتها لواقع، وإنَّما يأملون (يتوقَّعون) تحقُّقها دون (إدارة) مسئولة ورصينة، تُؤكِّد (جدارتهم) واستحقاقهم لما يُوصفون به! وبمعنىً آخر، فإنَّ جميع (قادة) كياناتنا مُتواكلين، وواقعنا الماثل يعكس (فَشَلهم) جميعاً ودون استثناء. ولعلَّ هذا يُؤكِّد، من جهةٍ ثانية، ما ذكرناه كثيراً – كغيرنا – بشأن أزمة القيادة التي تُعاني منها جميع القوى والكيانات السياسية القائمة، وأثرها الكبير في تعثُّر الأداء السياسي وتعميق سلبياته! وما يزيد الأمر سوءاً، عدم مُراجعة أداء أولئك (الرموز) والتعامل معهم بصورةٍ أقرب للتقديس، بغض النظر عن الكيان أو الحزب المعني، رغم فشلهم وعجزهم عن تقديم الجديد والمُفيد، وعدم مُراعاتهم لعوامل العُمر والفجوة الماثلة في الأفكار وأسلوب الحياة بين الأجيال.
صحيحٌ أنَّ إضراب الأطباء كان مطلبياً بالدرجة الأولى، ومُحدَّد الأهداف والمحاور ولم يتجاوز حدود وأُطُر مهنة الطب وخدماتها المُساندة، لكن الأطباء جُزءٌ من المُجتمع السُّوداني، ويرتبطون بأهم عُنصُر من عناصر الحياة وهو الإنسان. ولقد نجح الأطباء في إضرابهم، لكنَّهم بحاجة لدعمٍ يتجاوز بيانات التضامُن ثمَّ انتظار ما ستُسفر عنه الأيَّام! فرغم المكاسب (النسبية) المُقدَّرة، تزدادُ الحاجة لترقية طموحاتنا إلى مُستوى تحرير البلاد بأكملها من القبضة الإسلاموية المُتجبرة، والفرصة مُواتية أمام بقية القطاعات المهنية كالمُهندِّسين والمُحاميين والمُعلِّمين والبياطرة والحرفيين، ويُمكنهم الاستفادة من تجربة الأطباء وانتماءاتهم السياسية لتشكيل كياناتهم وتعزيز التنسيق في بينهم، وتكوين أرضية صلبة لمُواجهة واقتلاع العصابة الحاكمة.
إنَّنا بحاجة ماسَّة لإجراءاتٍ عمليةٍ عاجلة، لإنقاذ ما تبقَّى من السُّودان الذي يحيا واقعاً مأساوياً غير مسبوق، لم ولن يُجدي لتحسينه مُفاوضات أو حوارات تَمْنَح المُتأسلمين الوقت لارتكاب المزيد من الجرائم! وإنقاذُ السُّودان، لا يكون بالشعارات وبيانات التضامُن التي تنتهي بانتهاء الحدث، وإنَّما بأفعالٍ حقيقية لها نتائجها الإيجابية والملموسة. ولنثق تماماً بأنَّ المُتأسلمين لن يتركوا السُّودان إلا لو اقتلعناهم، وسيستخدمون أكثر من وسيلة لاستدامة بقائهم، ودونكم تصريحات البشير عشية الجمعة 21 أكتوبر 2016 (وفق الشرق)، التي أكَّد فيها إغلاق الحوار بالداخل والخارج عدا ما وصفه بـ(الوثيقة الوطنية)، وتنبيهه بأنَّ استمرار المُفاوضات مع الحركات المسلحة لـ(إنهاء الحرب ووقف نزيف الدم)، دون إشارة لمُساءلة أو مُحاكمة المُجرمين أو جَبْرْ خواطر الضحايا والمكلومينً! ولم يَنْسَ مُغازلة المُغامرين بتعالي (أجْوَفْ)، حين قال بأنَّ عصابته (ستتنازل) عن السُلطة وتُفسح المجال لمُشاركتها في حكومة (وفاقية)، وكأنَّه وَرِثَ البلاد والعباد يَمْنَح و(يَمْنَعْ) من يشاء ووقت يشاء!.
المُحصِّلة، علينا ألا نفرح كثيراً بالمكاسب المحدودة التي حقَّقها الأطباء، ليس تقليلاً منها أو من وقفتهم القوية، ولكن لأنَّ الطموح أكبر مما تحقَّق مُقارنةً بتحديات قطاع الصحة والعاملين فيه من جهة، وآمال السُّودان وأهله في الحرية والانعتاق من جهةٍ ثانية. فالمُتأسلمين بخبثهم (الفريد) أرادوا فقط تحجيم الأطباء، واكتساب الوقت ريثما يُسكتونهم للأبد، ويقطعون الطريق أمام بقية القطاعات المهنية الأُخرى. وواهمٌ من يعتقد أنَّ المُتأسلمين سيوفون بالمطالب الأكبر للأطباء، كتحسين بيئة العمل وشروط الخدمة وغيرها، فهي مُرتبطة بتحسُّن الوضع الاقتصادي العام، وهذا مُستحيل وفق مُعطياتنا الحالية تبعاً للغة المنطق والأرقام!
فلنعمل لإنهاء مآسينا ومُعالجة جراحاتنا وتضميدها، وهي آمالٌ وتطلُّعات تتحقَّق باتحادنا لإزاحة هذه العصابة وليس مُقاسَمَتِهَا الإجرام. مع الابتعاد عن فِخَاخ الحزبية والجهوية الضيقة، وتلافي المُمارسات الفردية واستبدالها بتعزيز روح الفريق الواحد، وتقديم الأهداف العامَّة على الخاصة، والاستفادة من تنوُّع السودان وتبادُل المنافع التي يُتيحها هذا التنوُّع وإكمال بعضنا البعض.