د. فيصل عوض حسن
تَمَنَّيتُ أنْ يُحْدِثَ التغييرُ طَفْرَةً نَوْعِيَّةً مَحسوسة، وتطبيقاً احترافياً للإدارة العلميَّة في قطاعنا الزراعي عموماً، وقطاع الثروة الحيوانِيَّة خصوصاً، باعتباره محوراً رئيسياً لأي إصلاح اقتصادِي (حقيقي)، لكنَّنا اصطدمنا بواقعٍ بائِسٍ لهذا القطاع الحيوي، وتَخَبُّطٍ وتضليلٍ في كافة الأنشطة والمُمارسات المُتعلِّقة به، وفَشَلٍ واضحٍ في حِفظِ وتعظيمِ مِيْزَتِه النِسبِيَّة الكبيرة، وتَزَايُد (استنزاف/هَدْر) هذه الثروة، دون عوائدٍ اقتصادِيَّةٍ معلومةٍ ومُؤثِّرة.
في هذا الإطار، قَرَأتُ بصحيفة الرَّاكوبة يوم 4 أبريل 2020، عن تصدير 5 آلاف رأس ضأنٍ للسعودِيَّة، من جُمْلَة 300 ألف رأس، واعتبر مُدير المُؤسَّسة المُتَّحدة للماشية، أنَّ تصدير هذه الكميات المَهُوْلَة بمَثَابة (فَتْحْ) للسُّودانيين! مُشيراً لوجود 30 ألف رأس في منطقة الخِوَيْ، سيتم تصديرها للسعوديَّة أيضاً في الأيَّام المُقبلة! وقبل هذا، أعلَنَت سونا يوم 12 مارس 2020، عن تصدير 10 آلاف رأس لسلطنة عُمَّان، و14 ألف رأس إبل و499 أبقار لمصر! ثُمَّ فُوجِئتُ بخبرٍ في الرَّاكوبة يوم 8 أبريل 2020، يتعلَّق برَفْض السعوديين إدخال الـ5 آلاف رأس، التي صُدِّرَت إليهم يوم 4 أبريل 2020 (أي بعد 4 أيَّامٍ فقط)، بِحجَّة ضعف مَنَاعتها وعدم مُطابقتها للاشتراطات! وفي تناقضٍ مفضوحٍ، ادَّعى أحد أعضاء لجنة مُصدِّري الماشية، بأنَّ (مَنَاعَة) الشُحْنَة كانت 70% ببورتسودان، و(انخفضت) إلى 14% بعد وصولها جِدَّة، ثُمَّ تأسَّفَ لـ(تَجَاهُل) اشتراطات الصادر من الجهات المُختصَّة (دون توضيح هذه الجِهات)! ولم يَصدُر أي بيان أو تصريح رسمي، من وزارة الثروة الحيوانِيَّة، أو نظيراتها من الوزارات ذات العلاقة بالتصدير، رغم (جَسَامَة) الحدث وآثاره المُكلِّفة!
بعيداً عن (استهتار) الحاكمين، وتَجَاهُلهِم المُخزي لهذه الكارثة، لا أدري أين (الفَتْحْ) الذي تحدَّثَ عنه مُدير مُؤسَّسة الماشية، وهو في الواقع (إهدارٌ/استنزافٌ) سَافِرٌ لثرواتنا الحَيَوِيَّة، إرضاءً للسعوديَّة التي (تتعَمَّد) إيذاءنا، وتشويه سُمعة مُنتجاتنا في السُّوق الدَولِيَّة! لأنَّ هذه ليست المَرَّة الأولى، فقد رَفضَ السعوديُّون شُحنةً في أكتوبر 2019، بحِجَّة إصابتها بـ(حُمَّى الوادي المُتَصَدِّع)، ثُمَّ تَلَقَّى السُّودان إعلاناً (رسمياً) من المُنظَّمة العالمِيَّة لصحَّة الحيوان، بـ(خُلُو) بلادنا من هذا المرض. وقبلها، في أغسطس 2019، احتَجَزَ السعوديُّون 6 بَوَاخِر مُحَمَّلة بالضأن لأكثر من أُسبوع، رغم استيفائها لكافَّة الإجراءات الصحِّيَّة/البيطريَّة، مما أدَّى لنفوق 25 ألف رأس! وفي الحالتين أعلاه، أغسطس وأكتوبر، تَكَبَّدَ السُّودانيُّون (وحدهم) خسائر مالِيَّة ومعنويَّة فادحة، و(تَحَاشي) مسؤولينا مُطَالَبَة السعوديَّة بالتعويض، عن تلك الخسائر أو على الأقل دفع جُزءٍ منها. نحن بحاجة لمعرفة أثر ذلك (الفَتْحْ) على اقتصادنا العام، أو على الأقل قطاع الثروة الحيوانِيَّة بالأرقام؟! وهل التزموا بـ(الإجراءات/الشروط) الصحِيَّة والبيطريَّة للتصدير؟ لو قالوا نعم، فلماذا (يتأسُّف) عُضو اللجنة أعلاه، على (تَجَاهُل) اشتراطات الصادر من الجهات المُختصَّة (التي لم يُحدِّدها)؟! ومن المسئول عن هذه الضوابط أصلاً، ولماذا تتكرَّر المُشكلة ويتحمَّل السُّودان (وحده) خسائرها، وإلى متى؟
جميع الدول المُحترمة تسعى لتحقيق الاكتفاء الذَّاتي (الأمن الغذائي)، خاصةً من السِلَع/المُنتَجَات التي تتميَّز في إنتاجها، فيكون هدفها الأساسي تغطية السوق المُحلِّيَّة وإشباع مُواطنيها من السِلْعَة المَعنِيَّة. ولو طَبَّقنا هذا المبدأ في حالتنا، فذلك يعني توفير اللحوم للمُواطن السُّوداني أوَّلاً، وبنحوٍ دائمٍ وبأسعارٍ في مُتَنَاوَلِه، ودونكم ما جرى في أزمة الغذاء العالميَّة عام 2008، حينما (امتَنَعَت) الكثير من الدول عن تصدير الغذاء، رغم العوائد الضخمة تبعاً لارتفاع أسعار الغذاء وقتها، لكنَّها أصَرَّت على حقوق/حاجات مُواطنيها وحِمايتهم. والأوضاع الرَّاهِنة، تُؤكِّد تَوَجُّه العالم نحو (الامتناع) والانغلاق، إذ تَزَايَدَت الأصوات المُنادِية بدعم وتأمين احتياجات المُواطنين أوَّلاً، عقب انتشار مرض كرونا، بغض النظر عن انعكاسات هذا الاتجاه، كالكساد واختلال التَوَازُن المالي العالمي والإقليمي وغيره، فالمُواطن هو الأهمَّ لدى الدول المُحترمة. بخلاف ذلك، هناك قاعدة العرض والطلب، وجوهرها ارتفاع السعر والطلب بانخفاض (كِمِّيَّة) المعروض، والعكس صحيح خاصةً في حال تَمَيُّز المُنْتَج/السِلعة، وهذا يعني الاهتمام بـ(قِيْمَة) الصادر وليس (كِمِّيَّته)، أي تصدير (كميات) أقلَّ لضمان استدامة ارتفاع الطلب والأسعار، وتحقيق ذات العوائد السابقة (إنْ لم يكن أكثر)، وفي ذات الوقت تحقيق (توازُن) الأسعار المحليَّة، وإشباع حاجة المُواطن (المالك الحقيقي) لهذه الثروة، وهو أمرٌ تفعله السعوديَّة وغيرها من دول أوبك، فضلاً عن الأمثلة الأُخرى التي ذكرناها أعلاه.
قد يقول قائل، بأنَّنا لو انغلقنا وامتنعنا عن تصدير ثروتنا الحيوانِيَّة للسعوديَّة، فإنَّها ستَجْلِب اللحوم من دولٍ أُخرى، خاصَّةً إثيوبيا أو استراليا وغيرهما، وأنَّنا سنفقد عوائد تصدير تلك الكميات، غير أنَّ هذه حِجَجٌ مردودة، لأنَّ ما تُصدِّره إثيوبيا من ضأنٍ وغيره، سواء كان حَيَّاً أو ذَبيح مُستحيل يكون من إنتاجها، لأنَّها ببساطة لا تملك مَرَاعي تحتمل هذه الأعداد (المَهُولة) من الحيوانات، بخلاف الأصناف/السُلالات المُصَدَّرة خاصَّةً الضأن، والتي من الواضح أنَّها مجلوبة من السُّودان، الذي أصبح (مُسْتَبَاحاً) في عهد المُتأسلمين الظَّلامي، وازدادت (استباحته) الآن بشكلٍ أكثر خطورة. وبالنسبة لأستراليا، فإنَّ المُسْتَهْلِك السعودي يُفضِّل اللُّحوم السُّودانِيَّة، لأنَّها قليلة الدَسَم مُقارنةً بالأسترالِيَّة، والأهمَّ من هذا كله أنَّ بإمكاننا تسويق لحومنا في أسواقٍ أُخرى، عقب (اكتفاء) المُواطن السُّوداني منها، لأنَّ ثروتنا الحيوانِيَّة (مُمَيَّزة) بتربيتها في مَراعي طبيعيَّة/عُضوِيَّة، فضلاً عن قلَّة الدَسَم، وهذا يرفع أسهمها وأسعارها في السوق الدَولِيَّة. وأمَّا عوائد (الإهدار) المُسمَّى تصدير، فهي أصلاً مجهولة وغير محسوسة، ليس فقط على مُستوى الاقتصاد العام، بل حتَّى على صعيد قطاع الثروة الحيوانِيَّة نفسه، الذي ما يزال يُعاني من الإهمال ويفتقر لأبسط المُعينات!
إنَّ التَرَاجُع الاقتصادي المُتسارع في عهد الدكتور حمدوك، لا يتناسب إطلاقاً مع الأقاويل الدَّائرة عن قدراته/خبراته في الأسافير، وأخُصَّه دون غيره باعتباره المسئول التنفيذي الأوَّل، ولأنَّه يَتَلَكَّأ و(يُرَاوِغ) في أداء مهامه (الأصيلة) التي أُخْتِيْرَ لأجلها، ويَنْشَط فقط في الجوانب (الانصرافيَّة) مما عَقَّدَ مشاكلنا الاقتصادِيَّة بنحوٍ مُفزع، أوضحته في عددٍ من المقالات، آخرها مقالتي (فَلْنَحْذَر صِنَاعة الطُغَاة) بتاريخ 6 أبريل 2020. ولنتأمَّل في تَجَاهُلَ الدكتور حمدوك (المُريب) للحادثة أعلاه رغم فَدَاحتها، مما يجعلنا أمام احتمالين لا ثالث لهما، إمَّا أنَّه غير مُتابع لأحوال البلد وقضاياه الخطيرة وهذه مُصيبة، وإمَّا أنَّه يعلم و(يتغافل) وهذه كارثة! والاحتمال الثاني هو الرَّاجِحُ عندي، لأنَّه يتعَمَّد (التضليل) وصَرف الأنظار عن الأزمات الحقيقيَّة، ويُلهينا بأمورٍ جانِبِيَّة مع (تضخميها)، وكمثال على ذلك تشكيله لِلَجْنَة وصفها بـ(العليا)، لإنجاح الموسم الزراعي (الصيفي)، مُهِمَّتها رصد إحتياجات الموسم، وتوفير مُدْخَلات الإنتاج والآليات ووضع خطة لتحديد كيفيَّة توفير الموارد اللازمة! وهذه مهام إحدى إدارات وزارة الزراعة، ولا ترتقي بأيَّة حال لمُستوى رئاسة الوُزراء، الذي من المُفترض أن يهتم بالاستراتيجيَّة (العامَّة) للدولة، ومن ضمنها القطاع الزراعي بشقَّيه (الحيواني والنَّباتي)، وحتَّى لو تَطَلَّبَ الأمرُ تَدَخُّلَه فلا يتعدَّى ذلك نطاق المُتابعة والإشراف!
من المُؤسِفِ والمُفْزِعِ، أنَّ الدكتور حمدوك لم يَرتَقِ (لخُصُوصِيَّة) قطاع الثروة الحيوانِيَّة، وأهمِّيته الاستراتيجيَّة كمِيْزَةٍ نِسْبِيَّةٍ مُتفرِّدةٍ و(مضمونة)، تجعله محوراً (رئيسياً) لأي نهضةٍ مأمولة، بخلاف أنَّه من القطاعات القليلة التي ما تزال تُنْتِجْ. ورغم هذه الاعتبارات، لم نَرَ أي فكرة علميَّة/عملِيَّة (جادَّة) من الدكتور حمدوك، لنهضة واستدامة هذا القطاع، كتهيئة العوامل المُساندة لإيجاد مَراعي طبيعيَّة دَّائمة، وإنشاء محطَّات الإكثار والإرشاد البيطري والرعاية الصحِّيَّة للقِطعان، ووضع سياسات وضوابط/تشريعات تطوير عمليات التصدير، وضبط الأعداد والأوزان والأنواع (المُصدَّرة)، وحماية مصادرنا الوراثِيَّة الحيوانِيَّة بتجريم تصدير الأناث، وتشديد العقوبات على ما يفعل ذلك، وتحقيق (التَوازُن) بين الحاجة المحلِّيَّة والتصدير، وإنشاء حظائر التربية ومُلحقاتها قُرب موانئ التصدير، تقليلاً للمسافات الطويلة التي تقطعها (القِطعَان) من مناطق الإنتاج، بما يُنعِشْ مناطق جديدة ويفتح فُرَصاً إضافيَّةً للعمل، سواء برعاية القِطْعَان أو إنتاج محاصيل الأعلاف، ويُعزِّز الاستفادة من مُخَلَّفات الحيوانات، ويُقلِّل هَلَاك وفُقدَان الشُحنَات التصديريَّة، فضلاً عن تطوير برامج وتقانات الإكثار، وزيادة أعداد الثروة الحيوانِيَّة و(عائداتها)، وهذه جميعها مهام وواجبات (أصيلة)، للسُلطة التنفيذيَّة التي يَرْأسها الدكتور حمدوك!
ليس من العدلِ ولا المنطقِ، حِرمان السُّودانِيّين من خيراتِ بلادهم، وتَمَتُّعِ الآخرين بها دون مُبَرِّراتٍ أو عوائدٍ محسوسة، وهذه (فوضى) تتطلَّب المُحاكمة الجنائِيَّة والتاريخيَّة، ونحن المَعنِيُّون بإيقافها وحسمها. فلنبدأ بمعرفة الشروط التفصيليَّة لهذه الصفقات، وعوائدها الحقيقيَّة وكيفيَّة استلامها، وما تم استلامه فعلياً وأين ذهب، وتحريك دعاوي قضائيَّة مُباشرة وعاجلة لكل من يثبُت تورُّطه، سواء في هذه الصفقة أو في الجرائم السابقة. وبالتوازي علينا (تقنين) عمليات التصدير، بعد تغطية السوق المحليَّة وتلبية احتياجات المُواطن أوَّلاً، دون مُساومةٍ أو نقاش، هكذا نستحصل حقوقنا المَسْلُوبة، لأنَّ الحقوق تُقْتَلَع ولا تُسْتَجْدَى.