عبدالغني بريش فيوف
في حوار طويل أجرته السودانية عبير المجمر سويكت مع السياسي والقانوني المخضرم على محمود حسنين في العاصمة البريطانية (لندن) مؤخرا حول العديد من الملفات السودانية السياسية الساخنة -منها ملف حق تقرير المصير الذي طالبت به الحركة الشعبية لتحرير السودان -شمال “للمنطقتين” بعد قرارات مجلس تحريرهما في أبريل من العام 2017م. قال علي محمود حسنين في رده على سؤال الصحفية عن رأيه فيما طالبت به الحركة الشعبية لحق تقرير المصير لجبال النوبة. قال بالحرف الواحد (جبال النوبة ستظل جزء من السودان إلى يوم الدين، نحن ضد تقرير المصير، ودعوة تقرير المصير هذه نوع من الأضحوكة و السذاجة والجهالة، وعندما تكون هناك سلطة إتحادية فعن أي تقرير مصير سيتكلمون؟ ماذا يريدون أكثر من ذلك).
وواصل بالقول.. إذا أراد إقليم كردفان والوسط أن يعطي جبال النوبة والنيل الأزرق وضعاً مميزاً عن دونهم من مناطق الإقليم فهذا شأنهم، الإقليم هو من يتصدى لقضاياه وحده فإذا حصلت عندهم مشكلة نحن ناس الشمال والوسط لسنا طرف في القضية يمكن أن نساعدهم في حلها لكن نحن لسنا طرفاً وبناءاً على طريقة الحكم هذه لا يمكن أن يقولوا السودان يحكمه أولاد البحر ولا أولاد النيل ولا ناس الشرق… إلخ.
عزيزي القارئ..
كلام كثير وكتير جدا ورد في الحوار المعني. لكن ما يهمني في هذا الحوار الطويل جدا، هو حديث هذا القانوني المخضرم عن موضوع حق تقرير المصير “لجبال النوبة والنيل الأزرق” بلسان (نحن). ولا ندري ما إذا كان يقصد “بنحن” كل الشماليين، حكومةً ومعارضةً، أم يقصد فقط الجزء الذي يشاطره الرأي والموقف؟
صحيح، مواقف المناضل علي محمود حسنين السياسية الواضحة جدا من نظام الإنقاذ والزمرة الجاثمة على صدور الشعوب السودانية لثلاثين عاما، تجبرنا على احترامه وتقديره. غير أننا وبنفس القدر نرفض رفضا باتا عن وصفه لحق تقرير المصير لجبال النوبة بـــ (الأضحوكة والسذاجة والجهالة)، وهو القانوني البارع الذي يفترض ان يكون دقيقا عندما يتناول موضوعا ما من الجوانب القانونية.
الاستاذ/علي محمود حسنين..
نعم، من تتبع الممارسة لحق تقرير المصير، بمفومه الكلاسيكي، عبر التاريخ، نجد أنه ارتبط بالشعوب غير المستقلة، والشعوب المطالبة بالحكم الذاتي، والشعوب التي كانت خاضعة لنظام الوصاية الأمم، أي الشعوب التي كانت خاضعة للاستعمار أو لنظام الوصاية التي عملت به عصبة الأمم. لكن أصبح واضحا في الممارسة الطويلة للمجتمع الدولي، دولاً ومنظمات دولية أن طبيعة تقرير المصير قد تطورت فأصبحت تعني احد أهم الحقوق التي تقررها مبادئ القانون الدولي المعاصر، فهو يرتب للشعوب حقوقا ويرتب على الدول التزامات ذات طبيعة دولية، وهو حق دولي جماعي وعام في آن واحد فهو حق للشعوب دون الأفراد، وهو حق دولي عام لأنه مقرر لكل الشعوب وليس لفئة دون الأخرى ،وهو يشمل كل الشعوب المستقلة وغير المستقلة وفقا للمعنى السياسي القانوني لتعبير الشعب، كما تحدد في ميثاق الأمم المتحدة.
بمعنى، ان حق تقرير المصير للشعوب من المبادئ الأساسية في القانون الدولي باعتباره حقا مضمونا لكل الشعوب على أساس المساواة بين الناس ،لذلك توجد صلة قوية ومباشرة بين مفهوم حق تقرير المصير بكل أشكاله، وبين مفهوم حقوق الإنسان كفرد أو جماعة عرقية أو ثقافية من جهة، والديمقراطية في صيغتها القديمة والحديثة من جهة أخرى.
لكن، وبسبب اختلاف وجهات النظر في تفسير هذا الحق من قبل القوى الاستعمارية، فقد عمل ممثلو تلك الدول الاستعمارية على التقليل من شأن هذا الحق وإضعاف أهميته إلى حد إنكار وجوده ضمن مبادئ القانون الدولي، مما دفع الجمعية العامة للأمم المتحدة أن تطلب من لجنة حقوق الإنسان في قرارها رقم 421 الصادر عام 1950 وضع توصياتها حول الطرق والوسائل التي تضمن حق تقرير المصير للشعوب، كما نصت في قرارها رقم 545 الصادر عام 1952 على ضرورة تضمين الاتفاقية الخاصة بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية مادة خاصة تكفل حق الشعوب في تقرير مصيرها.
وإذا كان اعلاه هو حق تقرير المصير بمفهومه الجديد المتطور. فإن الاستاذ علي محمود حسنين في حواره مع السودانية عبير المجمر سويكت، سقط سقوطا كبيرا بتبنيه ذات الموقف الذي تبنته القوى الإستعمارية العنصرية لإضعاف أهمية حق تقرير المصير، عندما وصف في حواره مطالبة جبال النوبة به بالأضحوكة والسذاجة!!.
ما قاله علي محمود حسنين عن حق تقرير المصير لجبال النوبة ولغيره من الأقاليم السودانية، ليس شيئا جديدا، بل سبقه إليه سياسيين آخرين عندما كان شعب الجنوب يقاتل الحكومة المركزية في الخرطوم من أجل هذا الحق الإنساني، لكنهم خرسوا بتحقيق شعب الجنوب استقلاله عن السودان الشمالي في عام 2011م.. فلماذا لم يتعلم علي محمود حسنين من هذه التجربة وان ساقط الكلام والصراخ لا يوقفان إرادة الشعوب من تقرير مصيرها ومستقبلها السياسي والاقتصادي ووالخ دون وصايا؟.
نعم، كثيرون، حذروا من انفصال الجنوب، وكثيرون أيضا وبشهية مفتوحة وعلى مدار عدة سنوات، توقعوا سيناريوهات مخيفة ومرعبة حول انفصال الجنوب، غير ان هذه التهديدات وكل هذا الصراخ والعواء والنباح، لم يمنع شعب جنوب السودان من تقرير مصيره السياسي والاقتصادي والاجتماعي ووالخ، ذلك ان تقرير المصير مبدأ انساني دولي وليس “هِبة” تمنح من احد إذا كنتم تعلمون.
إنه حقا لأمر مضحك ومبكي في نفس الوقت عندما تسمع البعض وهو يزبد ويرغي وينتقد الحركات السودانية المسلحة المطالبة بحق تقرير المصير، بينما مدينة “الفشقة” أرض سودانية محتلة اثيوبيا منذ عدة سنوات، وكذا منطقة حلايب التي تحتلها “الخديوية المصرية” منذ 1992م. والمناضل علي محمود حسنين شخصيا لم نعرف له رأيا في هذا العدوان المصري الغاشم على أرض سودانية مليون في المائة%!.
أليست المعايير المزدوجة وسياسة الكيل بمكيالين هي سر النزيف الدائم في جسد اقليم اسمه (السودان)، يا مناضلنا الجسور/علي محمود؟.
ألم يبارك المناضل الجسور/علي محمود حسنين وحزبه (حزب الميرغني الطائفي) اتفاقية نيفاشا للسلام التي اعطت الشعب الجنوبي الحق في تقرير مصيره.. إذن لماذا اشتاط غضباً لمجرد مطالبة الحركة الشعبية لتحرير السودان -شمال بحق تقرير المصير لجبال النوبة، وبدأ يزبد ويرغي، ويسب ويشتم!؟.
ان حق تقرير المصير الذي طالبت به الحركة الشعبية لتحرير السودان -شمال بعد قرارات مجلس تحرير المنطقتين في أبريل من العام 2017م، لم يأتي هكذا اعتباطا، لكن بعد ان زاغت الأبصار وبلغ السيل الزبى. والحركة الشعبية عندما تتحدث عن حق تقرير المصير، فهي لا تطالب به فقط لجبال النوبة والنيل الأزرق، بل لكل شعوب السودان إذا ارادت كون تقرير المصير يعتبر حقا مشروعا، ووسيلة من الوسائل الديمقراطية.
الوطن.. يا عزيزي علي محمود حسنين، ليس مجرد رقعة جغرافية تمتد من هنا إلى هناك، وحكومة، و(شعب) مقيم في هذه الرقعة. بل الوطن هو مجموعة من القيم والمثل. هو هذا الجميع، الجميع في علاقاتهم الإنسانية، في العيش المشترك، في شعورهم بالإنتماء إليه، في إحساسهم بالأمان والاطمئنان، الحقوق والواجبات، في السلطة الشرعية المعبرة عنهم. هذا هو الوطن، ودونها لا وجود للوطن وللمواطنة.
كيف للمناضل الجسور/علي محمود حسنين ان يطالب أبناء جبال النوبة بالمحافظة على وحدة هذا الوطن المسمى بالسودان وقد حوله سلاطين المركز وطغاته وهم بالضرورة من حملة الثقافة الصحراوية البدوية الإقصائية إلى مكان مخيف مرعب، إلى مكان يسلب منهم الأمان ويقتلهم، إلى مكان يسجنهم ويراقبهم، إلى مكان يستبيح حقهم وحريتهم؟
ليترك الاستاذ علي محمود حسنين ناس جبال النوبة ودارفور والنيل الأزرق جانبا. فقد ترك الملايين من أبناء شمال السودان وهو واحد منهم، هذا الوطن الظالم، تركوا السودان ورحلوا مجبرين نجاة بحياتهم لموقفهم الواضح من المسؤولين عن تدمير الوطن.. فعن أي وطن يريدنا الحفاظ عليه!.
إذا ارادت منطقة جبال النوبة تقرير مصيرها السياسي والإقتصادي والإجتماعي ووالخ. فلا تستطيع قوة على هذه البسيطة منعها، ويجب ان لا يتقمص البعض دور البطل ويستغل غباء وسذاجة السودانيين بالخطب الحماسية وبالتهديدات الكلامية واللغوية الجوفاء، إذ ان الأوطان تبنى بالمراجعة والإعتراف بالخطأ.. وكفانا وصاياكم على الشعوب السودانية وممارسة سياسة الجهل والتجهيل!.
تعليق واحد
اقرا اولا ما يعنيه الأستاذ بالسلطة الاتحادية في برنامج الجبهة الوطنية العريضة، في موقعها الإلكتروني، وحينها ستعرف أن تقرير المصير في هذه الحالة جهالة وسذاجة. وخلط الأوراق الذي تقوم به باستخدام ما يحدث الآن يتحمل وزره النظام فقط. وإسقاطه هو الطريق الوحيد والاوحد حتي يمكن أن يتكلم أحد عن تقرير مصير أو الأراضي المحتلة. وغير هذا يدخل في باب استغلال وجود هذا النظام لتمزيق السودان وهي خيانة عظمي لن تسقط بالتقادم. والجنوب وقيادته ليست في مأمن منها عند المحاكمة.