لقد اثارت حلقة برنامج حال البلد بقناة سودانية أربعة وعشرين , من قبل يومين ما ضيين , و التي استضافت الفريق محمد حمدان دقلو قائد قوات الدعم السريع , غباراً كثيفاً وجدلاً واسع النطاق , وذلك بحسب تغريدات الناشطين والمتابعين للشأن السياسي بالبلاد , فانبرى أكثرهم إلى القول بأن الدولة قد أوشكت على الإنهيار , و ذلك بعامل فقدان الثقة المتنامي بينها وبين المواطن , خاصة بعد ظاهرة حملات الحلق الجماعي لشعر رؤوس الشباب , والتي قامت بها جماعات نسبت الى قوات الفريق محمد حمدان , الأمر الذي نفاه حميدتي عبر ذات البرنامج التلفزيوني في ذلك المساء , فقدم الكثير من الأوراق والبطاقات المزورة الحاملة لشعار القوات التي يرأسها , والتي قال عنها أن مؤسسته لم تقم بإصدارها , وحمّل جهات أخرى تبعات تنظيمها لحملات الحلق العامة لرؤوس الشباب التي استهدفت تشويه صورة قواته, حسب زعمه , بل ذهب حمدان إلى أبعد من ذلك بانتقاده اللاذع لأحمد هرون والي ولاية شمال كردفان , و استنكر زعمه بأنه استخدم قوات الدعم السريع و استغلها في الفعل السياسي , لقد كشف ذلك الحوار مدى تنافر مؤسسات منظومة البشير و افتقارها للمؤسسية , و حاجتها إلى التنسيق و إحكام العلاقات التنظيمية و الإدراية فيما بينها , و الغريب في أمر الكثيرين ممن طرحوا أنفسهم على ساحة العمل الصحفي و الإعلامي , محللون و ناقدون ومنظرون , أنهم ضخمّوا دور حميدتي وبالغوا في تصويره كواحد من رموز السلطة في البلاد , إلى الحد الذي وصفه احدهم بان له دولة قادمة و سوف يطيح بسيده البشير , ما يعتبرتحليلاً سقيماً وفطيراً لا يسنده دليل واقعي و عملي , فمثل البشير و حميدتي كمثل الفيل و ظله , وما قائد قوات الدعم السريع إلا عصاً في يد المشير يلوح بها متى ما شاء و كيفما أراد , ولا اظن ان الفريق محمد حمدان بأعز على البشير من ابن عمه موسى هلال , فهلال وبرغم الخدمات الجليلة التي قدمها للنظام في أوج إحتدام صدام الثوار مع القوات المسلحة في دارفور , لم تشفع له كل فروض الولاء والطاعة العمياء التي ظل يقدمها للسلطة , وعندما انتهى دوره و استنفذت طاقاته ولم يعد بمقدوره أن يكون ورقة من الأوراق الرابحة في لعبة النفوذ و السلطة , همشته نفس السلطة التي اوفى لها , وعلى الفور تمت صناعة رمز آخر ليقوم بمهام المرحلة وبكفاءة عالية و إنصياع تام , بل وأكثر منه جاهزية لتنفيذ الأوامر العليا و التعليمات , و سرعان ما وجد الشيخ هلال نفسه مهملاً في مستريحة , يغرد وحيداً خارج سرب منظومة الحكم الانقاذي , فإنّه لمن السذاجة و العبط أن يترك المواطن السوداني الفيل بحجمه الكبير و الظاهر والبائن للعيان , ليقوم بتوجيه سهامه إلى الظل الهزيل والمجرد لهذا الفيل .
فالحلّاق الحقيقي الذي يقوم بحلاقة رؤوس ورقاب المواطنين السودانيين ليل نهار , هو حادي ركب سفينة الأنقاذ , وليس ذلك الرجل البدوي البسيط والبائس , الذي ساقته أقداره وقدماه الى دهاليز قصر غردون , و كعادة حادي ركب السفينة فهو يهوى ممارسة لعبته المفضلة , وهي ضرب اعناق مريديه بعضها ببعض , فسوف تستمر مهزلة الإنقاذ اذا لم يرتقي صناع الرأي في مواقع التواصل الاجتماعي , و معهم الحاملين للواء التغيير, من ناشطين وكتاب و اكاديميين و مهتمين , و يتناولوا أُس المشكلة و المعضلة في سودان اليوم , و يتركوا السعي وراء الفقاعات و البالونات الفارغة التي يطلقها أزلام النظام , فقد تحولت السلطة في السودان الى طاغوت فرعوني , بيده كل مقاليد الأمور , ويسيطر على جميع مصادر القرار , ويفعل بالناس ما يشاء , فلقد بطش هذا الطاغوت بكل الذين كانوا يتحلقون من حوله طوال مسيرة حكمه , ابتداءً من شيخهم وكبيرهم الذي علمهم السحر , ومروراً بمدير جهاز أمنه ومخابراته , ثم بنائبه (علي عثمان) و انتهاءً بمساعده المشاكس (نافع) , فلم يترك استقلالية لأحد , من أصغر تابع من اتباعه إلى أكبر جهبذ من جهابذة النظام , فجعلهم جميعاً يبصمون بأصابعهم العشرة و هم صمٌ بكمٌ وعميٌ , لا يسمعون ولا يتكلمون ولا يبصرون , برغم درجاتهم العلمية الكبيرة وتاريخهم السياسي الطويل , وخبراتهم الحياتية الممتدة عبر عمر الدولة السودانية الحديثة , إضافةً إلى كسبهم داخل ذات التنظيم الإخواني الذي جاء بالزعيم محمولاً على الأكتاف من (ميوم) , من أقاصي غرب السودان إلى السلطة في القصر الجمهوري بالخرطوم , فاليوم لا صوت يعلوا فوق صوت المشير , وما سعادة الفريق دقلو إلا سيفاً متوهجاً يمسك بغمده هذا الزعيم ويلوح به في وجه من يقول لا , حتى اذا خبأ ضؤه وخفت وهجه وكلّت حدته وملّت , استبدله بسيف آخر , و ما أكثر السيوف الناشدة للمال و السلطة والجاه , والباحثة عن الأضواء والظهور الإعلامي في هذا الوعاء والخضم الإنقاذي.
لقد إعتاد الشعب السوداني على إلقاء العتب و اللوم على الغائبين من أبنائه , والدكتور الراحل حسن عبد الله الترابي خير مثال على اولئك الذين غابوا عن دنيانا , ومازالت مجالس المدينة تذكر تلك الليلة المشؤومة , ألتي تآمر فيها مع المشير على إختطاف سلطة الشعب , هذا الشعب الطيب المسكين الذي ترك الرجل الحاضر و الجاثم على صدور قومه المؤمنين , وأخذ يصب جام غضبه على الرجل الذي غادرهم إلى الدار الآخرة , إذ أنه مايزال الناقمون على الإنقاذ يسخطون من الشيخ الراحل و يحمّلونه تبعات ما جرى و يجري للبلاد و العباد , مع أنه قد رحل و ترك لهم هذه الفانية ببهرجها و زينتها , متناسين بذلك قوله تعالى : (تلك أُمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون) , صدق الله العظيم , فالراحل حفيد النحلان إذا لم يكن قد وجد فضاءً رحباً , ومساحةً زمنيةً مريحة و سهلة , لما استطاع أن يتمدد بتنظيمه الغريب على اللحمة السودانية , ولو لا تلك السمة السالبة لدى الكثيرين من ابناء شعبنا , لما تمكن من غرس الجذور الفكرية لجماعته الإخوانية في جسد هذه الأمة الطيبة , هذه السمة السالبة التي تتمثل في إدماننا لإتباع الطريق غير الصحيح في معالجة مشاكلنا , ودائماً و أبداً نقوم بإختيار الشماعة الخطأ , عندما نريد أن نعلق أخطائنا وإخفاقاتنا , فلا نحملها للجهة المسؤولة بالدرجة الأولى و الأساسية , فنلجأ إلى الحائط القصير , لتسهل علينا عملية القفز من عليه , حتى تتاح لنا الفرصة لنهرب من المواجهة الحقيقية مع تحدياتنا , فلا السيد معتز موسى رئيس الوزراء الجديد , ولا صلاح قوش رئيس جهاز الأمن و المخابرات الذي أُعيد تعيينه , ولا حتى الفريق محمد حمدان دقلو قائد أكبر قوة ردع عسكري بالبلاد , يستطيعون ان يقدموا حلاً أمنياً ولا إقتصادياً للبلاد في الوقت الراهن , ولن تكون هنالك انفراجة للأزمة إذا لم يتنحى المشير , و يعلن عن فشله في حل مشكلات الوطن ويترك سلطة الشعب للشعب , ليختار هذا الشعب من يشاء من ابنائه الصادقين , حتى ينتشلوا بلادهم من ورطة الهوة السحيقة التي اوقعتهم فيها منظومة الإنقاذ.
كلنا يوصي بعضه بعضاً بأن لا يتماهى مع ظل الفيل لأنه زائل , و أن يتم التركيز على الفيل ذات نفسه , لأن الظل ما هو إلا تمظهر غير ملموس ولا محسوس مادياً لحجم الفيل الحقيقي , وهو كالسراب تماماً , تتضح هلاميته كلما اقتربت منه , حتى اذا فصلت بينك وبينه مسافة الكثب , وجدته لا شيء , هذا هو حميدتي الذي هو صنيعة إعلام السلطة الانقاذية , التي بمقدورها أن تصنع مئات (الحميدتيين) الآخرين مثله , متى ما حان الوقت أو دعت الضرورة إلى لذلك.
اسماعيل عبد الله
[email protected]