د. فيصل عوض حسن
منذُ نحو شهر وأزمةُ رفض والي كسلا تزدادُ سخونةً يوماً بعد يوم، بدءاً بالاعتصام الشعبي الذي ما يزال قائماً، وانتهاءً بإغلاقِ بعض الشَّوارعِ والجسورِ الفرعِيَّة والرئيسيَّة. وحيال ذلك، وَعدَ الحُكَّام (عَسْكَر/مدنيين) بالتفاكر مع المُكوِّنات الرَّافضة لاختيار الوالي، رغم أنَّ ذات الحُكَّام سمحوا للوالي (المرفوض) بأداء القَسَم ومُمارسة مهامه فعلياً، وسط تصريحات لا تخلو من التحدي و(الاستفزاز)! في ما رَكَّزَ أزلام الدكتور حمدوك والقحتيين، على (شَيْطَنَة) رَّافضي والي كسلا، واتِّهامهم بفِرْيَّتَيِّ (الكَوْزَنَة والعُنصُرِيَّة).
ثَمَّةُ العديد من الأسئلة المنطقيَّة التي تطرح نفسها، لعلَّ أهمَّها: ما هي (معايير) اختيار وتعيين هذا الوالي؟ ومَدى (كفاءته) لِتَقَلُّد هذا المنصب الحَسَّاس، والذي يحتاج لقدراتٍ عالية وخبراتٍ مِهَنِيَّةٍ مُتراكمة، خاصةً لولاية مُلتهبة مثل كسلا! وهل تمَّت (المُفاضلة) بين هذا الشخص وبَقِيَّة المُرَشَّحين لمنصب الوالي وفقاً لتلك المعايير؟ وأين قِيَم ومبادئ الحُرِيَّة والشفافِيَّةِ والعدالة وإصلاح الخدمة المدنِيَّة، التي وعدَ بها حمدوك عقب إعلانه رئيساً للوُزراء، مما قام به بخصوص تعيين هذا الوالي؟ ولماذا (يتمسَّك) حمدوك بهذا الوالي، رغم المُهدِّدات المُفزعة المُترتِّبة على ذلك؟! ثُمَّ كيف (يلتزم) حُكَّامُ السُّودان بالتفاكر مع المُكوِّنات الرَّافضة لـ(اختيار/تعيين) والي لكسلا، ثُمَّ يسمحون للوالي (المرفوض) بأداء قَسَم التعيين ومُمارسة مهامه الاعتيادِيَّة، وإطلاق تصريحاته المُتلاحقة في أجهزة الإعلام الرسميَّة؟! ألا يُعتبر قرار تعيينه (مُجمَّداً)، وبالتالي لا يحقُّ له التصرُّف باسم الوالي حتَّى يُحسَم أمره؟ وهل المُؤسَّسيَّة التي يتَدَثَّر بها أزلام حمدوك وقحتيُّوه، تعني الاستخفاف برغبة وإرادة مُكوِّنات الولاية، وسَلْب حقَّهم (الأصيل) في اختيار وَالِيْهُم؟!
أمَّا مَزَاعِمِ العُنصُرِيَّة فهي تعكس (اختلالاً) مفاهيميَّاً كبيراً، لأنَّ العُنصُرِيَّة تعني الشعور بالتفوُّق والإقصاء/التمييز بين البشر، على أساس اللون أو الانتماء العرقي، وهذا لا ينطبق على حالة والي كسلا، لأنَّ المُكوَّنات الرَّافِضة للوالي لم تُمارس أي تمييز ضده أو ضد مُؤيِّديه، وإنَّما طالبوا بوالٍ (سُّوداني) دون تحديد قومِيَّة مُحدَّدة. علماً بأنَّ والي حمدوك لا يُخفي انتماءه وولاءه لإريتريا ويتباهى بذلك، وهذا حقُّه ولا غضاضة في ذلك، لكن وبذات القدر فإنَّ من حق أهلنا بكسلا اختيار مسئوليهم من أبناء السُّودان وهُم كُثُر، ويفوقون والي حمدوك والقحتيين أكاديمياً ومِهَنيَّاً، مما يُثير الشكوك والتساؤُل حول الدَوافع الحقيقيَّة، التي تجعل حمدوك وأزلامه يُغامرون باستقرار وسلامة الولاية بكاملها، لأجل شخصٍ واحدٍ يُوجد مَنْ هو أحَقَّ وأجْدَرْ منه بالمنصب!
قد يستشهدُ البعضُ بالتَدَاخُلِ القَبَلي بين السُّودان ودول الجوار، وبِتَقَلُّدِ بعضِ المُهاجرين لمناصب رفيعة بالعالم الغربي، وفي هذا نقول بأنَّنا لسنا ضد التَواصُل بين القبائل المُتداخلة، شريطة الاحترام المُتبادل لحقوق وحدود كل دولة، بخلاف أنَّ المُطالبة بتعيين (أبناء البلد) في المناصب الحسَّاسة، ليس جريمة أو سُبَّة على نحو ما يُحاول البعض إظهاره، وإنَّما نَهْجٌ ونظامٌ (صارمٌ) تَتَّبعه جميع الدول المُحترمة لحماية سيادتها الوطنِيَّة! وبالنسبة للمُهاجرين في الغرب، فإنَّ المُتجَنِّس منهم يلتزم بقوانين الدولة التي ينال جنسيتها، ولا يَدَّعي (تَبَعِيَّة) أي جُزءٍ من أراضيها لدولته الأصيلة، ويحترم مُواطنيها ولا يُخاطبهم بكراهِيَّة، بعكس ما يفعله الكثير من الإريتريين (المُجنَّسين) مع السُّودانِيين الآن! واللَّافِت أنَّ والي حمدوك على كسلا، لم ينتقد العُنصُرِيَّة وخطابات الكراهِيَّة الصادرة من أهله ضد السُّودانيين، رغم المَزَاعِم (الأسفيريَّة) بأنَّه إعلامي، مما ينسف تماماً (تأييد) ترشيحه لهذا المنصب، حِفاظاً على السيادة الوطنِيَّة، واحتراماً لرغبة غالِبِيَّة مُكوَّنات الولاية، ودرءاً للفِتَنِ وحقناً للدماء، وليس الإصرار على فرضه (عُنوةً) كما يفعل حمدوك وأزلامه، الذين تَدَثَّروا بـ(مَزَاعِم) العنُصُريَّة الفطيرة لتبرير تجاوُزاتهم السَّافرة!
إنَّ جميع مُمارسات حمدوك والقحتيين مُريبة وكارثِيَّة، ولقد فَصَّلتها في عددٍ من المقالات مثل (خِيَاْنَةُ اَلْثَوْرَةِ اَلْسُّوْدَاْنِيَّة) بتاريخ 22 يوليو 2019، و(إِلَى أَيْن يَقُوْدُنَا حَمْدوك) بتاريخ 24 سبتمبر 2019، و(المُتَلَاعِبون) بتاريخ 24 أكتوبر 2019، و(اِسْتِرْدَادُ الثَوْرَةِ السُّودانِيَّة) بتاريخ 2 فبراير 2020، و(مَتَى يَنْتَبْهْ اَلْسُّوْدَانِيُّون لِعَمَالَةِ حَمدوك) بتاريخ 12 فبراير 2020 وغيرها. وها هو ذا يستكمل، وبوضوح، ما بدأه الكيزان لتمزيق السُّودان، وأفصحوا عنه بصراحة عام 2005 عبر رُؤيتهم المعروفة بمُثلَّث حمدي، التي حَصروا فيها السُّودان في محور (دُنْقُلَا، سِنَّار والأُبَيِّضْ)، واسْتَبْعَدُوا المناطق الواقعة خارج ذلك المحور، كالجنوب (قبل انفصاله)، ودارفور والمنطقتين (جنوب كُرْدُفان والنيل الأزرق) والشرق وأقصى الشمال! وعقب انفصال الجنوب بتآمرٍ دوليٍ/إقليميٍ ومحليٍ فاضح، تَفَرَّغَ المُتأسلمون لتفكيك بقيَّةِ المناطق بسيناريوهاتٍ مُختلفة، تمَّ تنفيذها في آنٍ واحد، فأشعلوا الصِرَاع بدارفور والمنطقتين، وفرضوا التعييناتِ والتقسيماتِ الإداريَّةِ استناداً للجِهَوِيَّة/القَبَلِيَّة، وأهملوا تنمية كلٍ من الشرق وأقصى الشمال، وتركوهما للاحتلالين المصري والإثيوبي، وباعوا ما تَبقَّى منهما، وثَمَّة تفاصيل أكثر في مقالاتي (تكتيكات تنفيذ مثلث حمدي) بتاريخ 10 نوفمبر 2014، و(ملامح الفصل الثاني لمسرحية مثلث حمدي) بتاريخ 7 مايو 2015، و(اِسْتِكْمَاْلُ تَنْفِيْذِ مُثَلَّث حَمْدِي اَلْإِسْلَاْمَوِي) بتاريخ 15 مايو 2016، و(مَنِ اَلْمُسْتَفِيْد مِنْ رَفْعِ اَلْعُقُوْبَاْتِ عَنِ اَلْسُّوْدَاْنْ) بتاريخ 31 يوليو 2017، و(اَلْصِّيْنُ تَلْتَهِمُ اَلْسُّوْدَاْنْ) بتاريخ 5 سبتمبر 2017 وغيرها.
اختفى قادة المُتأسلمين نتيجة للحَرَاكِ الشعبي الأخير، وتركوا أزلامهم العَسْكَر بقيادة البرهان والمُرتزق حميدتي لاستكمال المُخطَّط، وفق ما أوضحته في مقالاتي (اَلْمَشَاْهِدُ اَلْأَخِيْرَةُ لِمَخَطَّطِ تَمْزِيْقِ اَلْسُّوْدَاْنْ) يوم 21 أبريل 2019، و(حِمِيْدْتِي: خَطَرٌ مَاْحِقٌ وَشَرٌّ مُسْتَطِيْر) بتاريخ 29 أبريل 2019، و(اَلْسُّوْدَاْنِي اَلْأصِيل وَاَلْجَنْجَوِيْدِي اَلْمُرْتَزِق) بتاريخ 5 يونيو 2019، و(السُّودان بين مليشيات المُتأسلمين والجَنْجَوِيْد) بتاريخ 14 يونيو 2019، و(الغَفْلَةُ السُّودانيَّة) بتاريخ 26 مايو 2019 وغيرها. وحمدوك وقحتيُّوه يستكملون الآن ذات المُخطَّط بإيقاعٍ أسرع، وفق الشواهد التي نحياها واقعاً الآن، ومن ذلك (افتعال) أزمة شرق السُّودان من العدم وتَجَاهُلِها بنحوٍ مُخجل. وهناك تَراخي حمدوك ومُساعديه الواضح تجاه الاحتلالين الإثيوبي والمصري، وإخفائهم المُتعمَّد لحقائق سَدَّ النهضة ومخاطره الجسيمة، وفق ما أوضحت في مقالاتي (السُّوْدان والاحتلالُ الأجنبي) بتاريخ 1 يونيو 2020 و(كَيْفَ نَحْمي السُّودان من أخطار سد النهضة؟!) بتاريخ 8 يونيو 2020، وجميعها تُفضي لتذويب ما تَبقَّى من البلاد والعباد!
قولُ الحقيقةِ مسئوليَّةٌ أخلاقيَّةٌ وإنسانِيَّة، ينبغي أداءها بِتَجَرُّدٍ وحِيَادِيَّة دون مُوَارَبةٍ أو تجميل، والدفاعُ الدَّائم و(المُغَالَى فيه) عن شخصٍ ما بِحُسْنِ نِيَّةٍ أو بدونها، يجعله صاحب سُلطةٍ مُطلقة، وطَاغِيةٍ مُتَكَبِّر يظلم نفسه والآخرين. وفتنةُ الشرق التي صنعها حمدوك وقحتيُّوه من العدم، كَشَفتَ (ازدواجيتنا) الصَّارخة و(اختلال) مفاهيمنا، فلطالما انتقدنا الكيزان رفضاً لأكاذيبهم وفسادهم و(عَمَالَتِهِم)، لكننا نتغاضى الآن عن كوارث حمدوك والقحتيين ونشكرهم عليها. وبينما نُناصِر الغُرباء، وننظِّم حملات التَضامُن في (الفارغةَ والمقدودة)، نصمت على عُنصُريَّة (الوافدين/المُجَنَّسين) ضد أهلنا بالشرقِ، بل ونتضامن معهم وندافع عنهم بسذاجةٍ صادمة! فحينما نُطالِب بـ(تقنين) الوجود الأجنبي، والالتزام بقوانين (تجنيس) الوافدين، وتحجيم تَغَلْغُلهم في مفاصل الدولة ومُحاربة تخريبهم للاقتصاد، وحَسم خطابات كراهيتهم للشعب السُّوداني، فإنَّ هذه ليست عنصريَّة، كما (يزعم) عُملاء حمدوك وآكلي فِتاته، وإنَّما حماية لسيادتنا الوطنِيَّة واستدامتها، بخلاف حَقَّ السُّودانيين المشروع في إدارة دولتهم بأنفسهم!
فالثابتُ أنَّ العديد من الوافدين نَالُوا الجنسيَّات السُّودانِيَّة بأطُرٍ مشبوهةٍ ومرفوضة، حيث حَوَّرَ المُتأسلمون القوانين لتجنيسهم، ومنحوهم مزايا عديدة بلغت حدود الاسْتِوْزَارِ، وتغيير (ثوابت) التَّاريخ وإقحامها في المُقرَّراتِ الدراسيَّة، لكنهم لم يحفظوا فضل السُّودان وشعبه، وقابلوا الإحسان بكراهيَّةٍ شديدة، وبلغت جُرأتهم الادِّعاء بـ(تبعِيَّة) كسلا لإريتريا، التي طُردوا منها واحتوتهم بلادنا فكان جزاؤُنا الكُره والغدر! ومُطالبات السُّودانيين المُتزايدة بمُراجعة الجنسيَّات/الهُويَّات الشخصيَّة، إنَّما أتت كنتيجة لتآمر أولئك الوافدين، واستهدافهم لسيادتنا وأمننا الاجتماعي، وأصبح من المُستحيل التعايُش معهم في ظل تصاعُد كراهِيَّتهم، واتساع نظرتهم (الغازِيَة) لشرقِنا الحبيب الذي يُعدُّ (رئتنا) وبوَّابتنا للعالم الخارجي.
ليتنا نترك عواطفنا ونتَدَبَّر بعقولنا، ونعي بأنَّ المُشكلة ليست شخصيَّة، وإنَّما وطنٌ وسيادة وأمنٌ واستدامة. فالمُخطَّط أكبر من مُجرَّد قتالٍ أو صراع وقتي، وإنَّما هو غَزْوٌ واستيطانٌ واستعمار، يجب حسمه كلياً ومنعه مُستقبلاً، ولنبدأ فوراً بمُراجعة جميع الجنسيات والأوراق الثُبوتِيَّة الصادرة منذ يونيو 1989، واعتماد المُتطابق منها مع القوانين التي كانت قائمة قبل ذلك التاريخ وإلغاء ما دونها، ومُحاسبة ومُحاكمة كل من يثبت تَورُّطه في استخراج تلك الأوراق. ولندعم هذه الخطوة بتعزيز تَلاحُمنا وحماية بعضنا، بذات الحماس الذي نتضامن به مع الغير، ضماناً لأمننا الاجتماعِي وسيادتنا الوطنِيَّة ومُستقبل أجيالنا القادمة.