يبدو أن يوم الاثنين الماضي الموافق الثامن من أغسطس الجاري كان يوما مشهودا في تاريخ الممارسة السياسية
في السودان . السودان المنقسم و المنهك بالصراعات الدموية التي بدأت منذ السنة الأولى لإستقلاله “الغير المجيد” قبل ستة عقود مضت . وهذا الإستقلال الغير المجيد . لم ولن يشرف الأغلبية الساحقة من الشعب لذلك ظل يقاوم وكان الثمن باهظا دفعت أرواحا وحمامات دماء ايرقت من قبل الأنظمة التي تعاقبت علي سدة الحكم في الخرطوم و آخر ربع قرن كانت تطبيقا عمليا لأيديولوجيا الفاشية الدينية و العرقية والتي أفرزت مأساة حقيقية حيث التقسيم و الإبادة الجماعية والتطهير العرقي و الاغتصاب الجماعي وهي الجرائم الأكثر فظاعة و الابشع في تاريخ البشرية الحديث وكلها ارتكبت بفرية سيادة الدولة و علي أسس عرقية و دينية بحق الملايين من المدنيين الأبرياء في الجنوب القديم والغرب والشرق والجنوب الأوسط و لوضع حدا لهذه المآسي . لابد من كل طرق الأبواب حربا و سلما ولابد من مشي خطوة أولى من الخطوات الكثيرة . لذلك يوم الإثنين الماضي كان يوما انتظره الكثيرين بشقف لمعرفة موقف أغلبية قوي المقاومة السودانية المسلحة والأحزاب السياسية الشريكة لها في تحالف ” نداء السودان ” من رفضها أو التوقيع علي الاتفاق الإطاري لخارطة الطريق التي قدمها الوساطة الأفريقية والتي قد وقع عليها نظام البشير سلفا . وجاءت اللحظة ووقَّعت المعارضة السودانية ممثلة في حزب الأمة بقيادة الصادق المهدي ، الحركة الشعبية لتحرير السودان ، وحركة تحرير السودان قيادة مناوي، وحركة العدل والمساواة السودانية ، و حزب المؤتمر السوداني
وفور إكمال مراسم التوقيع شرع قادة قوى “نداء السودان” في تبرير موقفهم، وشرح الأسباب التي دفعت بهم للإحجام عن توقيع الخارطة في مارس الماضي، حيث وقعت حينها نظام البشير منفردا مع الوساطة الأفريقية.
وقال عضو وفد النظام ، حسين كرشوم بأن توقيع المعارضة على خارطة الطريق يعني الإنتقال من مرحلة الحرب إلى مرحلة السلم . وقد بدأ يوم الثلاثاء التالي التفاوض المباشر بين النظام و الحركة الشعبية حول وقف إطلاق النار والترتيبات الأمنية.
وكان عمر البشير، قد أبدى ترحيبه بموافقة تحالف قوى نداء السودان على توقيع خارطة الطريق، وجدّد التزام نظامه بالاتفاق .
وفي جانب اخر قال الأمين العام للحركة الشعبية وعضو قوى نداء السودان ياسر عرمان أنهم لن يصلوا الي اتفاق لوقف العدائيات بدون إقليم دارفور وأضاف : موقفنا ثابت و إستراتيجي . لن نوقع اتفاقا ثنائيا مع النظام ” واذا اردنا ذلك لحسمنا امرنا خلال 14 جولة الماضية من محادثات السلام ، ونوه الي أنهم لن يلقوا بسلاحهم قبل الحل السياسي الشامل.
ومن جانبه قال زعيم حركة العدل والمساواة السودانية الدكتور جبريل إبراهيم : لن نوقع “اونطة” ووصّف التوقيع علي خارطة الطريق بالخطوة المهمة التي انتظرها الناس طويلا وبذلوا فيها مجهودات كبيرة واعتبرها بالبداية التي تتبعها خطوات أساسية .نحو الحوار المنتج لاسكات البنادق واخلاء السجون واتاحه الحريات. وقال :” الناس فهموا انه بمجرد التوقيع سننخرط في الحوار ”
بينما قال رئيس جيش تحرير السودان مني اركو مناوي أنهم في حاجة الي وحدة المعارضة ولايقاف الحرب واتهم النظام بالضلوع في الحرب الدائرة الآن بجنوب السودان.
وقال رئيس حزب الأمة ، الإمام الصادق المهدي، في كلمته بهذه المناسبة “نريد أن نصنع من مناسبة التوقيع عملية متصلة نشترك فيها جميعاً مهما اختلفنا، لنرد للشعب السوداني الأمانة ونوقف الحرب بسلام عادل وشامل”.
هذه كانت تصريحات الموقعين على الخارطة . والتي خلفت ردات فعل واسعة في الساحة السياسية
العودة إلي الوثيقة وتحليلها
يبدو ان هناك سوء فهم من قبل البعض لهذه الوثيقة . لكون بدأ لهم وكأنه اتفاق سلام وقعتها قوي المقاومة للوصول الي حضن النظام وتقاسم المناصب معه كما فعل الكثير من الهاربين من مشاق الثورة . ولكن الحقيقة هو أن الوثيقة تعتبر بمثابة اتفاق إطاري لمناقشة كل القضايا التي تهم الشعب السوداني والتى يمكن أن يمهّد إلي تسوية عادلة لقضايا البلاد، وهي خطوة مبدئية وليست إجبارية ولا هي اتفاق مناصب . ولم تتحدث الوثيقة في موضع عن انصبة الحكم أو ” الكعكة ” كما يسميها البعض . فهذه الوثيقة عندما تري فحواها ستجدها مثل مثلها بقية الوثائق التي وقعتها نظام البشير و لم يلتزم بتعهداته مع الموقعين .
ولكن هناك شي مهم جدا يمكن أن تجعل هذه الوثيقة محل إعتبار فهي . لأول مرة في تاريخ السودان أن تجتمع مثل هذا العدد من القوي السياسية وثورية مسلحة للجلوس مع النظام والتوقيع على اتفاق إطاري برأي واحد . فكل الاتفاقات التي وقعت من قبل مع النظام و أطراف من المعارضة كلها كانت ثنائية . من لدن نيفاشا ‘ أبوجا ‘ تهتدون ‘ نافع /عقار. و وثيقة حسنة النوايا في العاصمة القطرية الدوحة قبل ست سنوات بين حركة العدل والمساواة السودانية و النظام التي بموجبه تم إطلاق سراح بعض الأسري الذين اسروا في معركة الذراع الطويل التاريخية ولكن الوثيقة انهارت أيضا . وهنا لا نتحدث عن اتفاقيات المناصب . بل إتفاقيات الراكزين من حملة آمال و أحلام الجماهير . لذا من الطبيعي أن تنهار الوثائق والاتفاقات بسرعة . فالذي يحمل آمال الملايين لا يمكن أن يقبل بالتوظيف و الاستوزار الديكوري!
فبالتالي مزايا الوثيقة مهما اختلفنا حولها تبدو واضحة . اتفاق أغلبية القوي الثورية والسياسية علي التوقيع . والإصرار علي المضي قدما نحو العملية السلمية و وضع النظام في امتحان صعب كما يقول المثل السوداني ” وصل الكضاب لحدي الباب” فالوثيقة تضع خياران أمام النظام يا أما القبول بعملية سلمية تؤدي إلى نظام انتقالي او عليه تحمل العواقب الوخيمة . وفي جانب آخر وهذا تقديري الشخصي أن الوثيقة قد لا تصمد واحتمالية انهيارها واردة أيضا لكونها ستجعل النظام مجرد طرف عادي لحل المأساة التي تسبب بها وهذا يعني لا مكان لاستاذية النظام الذي يحاول فرضه . وقد رأينا منذ اليوم التالي من التوقيع . عندما دخلت الحركة الشعبية في مناقشات القضايا الإنسانية والترتيبات الآمنية مع وفد النظام . و التي تمت تعليقها نسبة لمحاولة وفد النظام المراوغة كما عاهدناهم.
بشكل عام يمكن القول بأن الوثيقة الاتفاق الإطاري أو خارطة الطريق تتضمن مؤشرات عامة حول وقف العدائيات ووقف إطلاق النار والترتيبات الأمنية والسياسية، و الثورية لمؤتمر الحوار الوطني و النظر إلي ما بعد الحوار !
الشكوكية وانعدام الثقة !
بالطبع ردود الأفعال كثيرة ومن ضمن التي وردت بعد التوقيع مباشرة كانت موجه تجاه شخص معين من ضمن الموقعين وهو زعيم حزب كبير له مكانته . لقد اعتبره الكثيرين بعدم الثبات في المبدأ و أطلقوا عليه لقب الحرباء أي المتلون حسب الظروف اي ليس ثابتا في مركزه . فبالتالي اعتبروه غير جدير بالثقة . بل واصل البعض القفز بعيدا وقال بأن هذا الشخص احتال علي قياداتهم الثورية و ذهب بهم الي الخرطوم بطريقة ناعمة حسب الخطة الماكرة وقيل بأنه سيصلي بهم عيد الأضحى في الخرطوم . و هذه اضحكني بشدة في جانب و في جانب آخر احزنني . لكون في الجانب الأول أنني أكثر من كتب عن تلون هذا الشخص ولست ممن يثقون فيه . ولكن لقد تغيرت الأشياء ولن تقبل التلون لذلك لا أحد قد يغامر بشي لا يعرف عواقبه .
و الجانب الآخر حزنت لكون أن قيادات ثورية لهم باع طويل في طريق شاق جدا كيف لهم أن يساقو الي اتجاه لا يريدونه أو لايعرفونه فهذه انتقاص كبير من مكانة هذه القيادات الذين يعقد عليهم آمال عريضة لإخراج السودان من كارثته التاريخية و قد يتنظر من هذه القيادات أن يعيدوا الحقوق لأهالي الأطراف . ضحايا الفاشية . في دارفور و كردفان الكبرى و النيل الأزرق و الشرق وهي أقاليم عانت المآسي التي لا يمكن نسيانها بسهولة
طائفة من الممانعين و الرافضين علي التوقيع
يجب القول بأن الوثيقة قد ضمت أغلبية القوي في الساحة ” لا أريد قول كلمة المؤثرة .. في تقديري الجميع مؤثرين” ولكن هناك قوى أخري رفضت الوثيقة و قالت لا تقربوها
فهذه القوي .. يتصدر مشهدهم حركة و جيش تحرير السودان بقيادة الأستاذ عبدالواحد نور . الذي اعتبر الوثيقة غير ذات جدوي . مثلها مثل الستة و أربعين وثيقة واتفاقية وقعها النظام مع مختلف القوى و البعض من تلك القوى هي ذاتها وقعت على هذه الخارطة . و ليس عبدالواحد وحده من رفض التوقيع أو أيدها فهناك قوي سياسية أخري رفضت الوثيقة كاحزاب الشيوعي و البعث العربي . ومعهم طائفة من الجماهير رفضت تأييد الوثيقة … فهنا لا داعي لتحليل مواقف القوي الرافضة . فهي كلها محل تقدير . ولابد من احترامها . ولابد من القوي الموقعة العمل علي الالتقاء بالقوي الرافضة . مجددا علي أي برنامج .
سؤال المليار دولار أين محاسبة مرتكبي الجرائم والفظائع ؟!
بعد الوثيقة اول الأسئلة التي طرحها الآلاف وأغلبهم من دارفور و بقية المناطق التي تجري فيها الإبادة الجماعية و التطهير العرقي
لقد كانت أول الأسئلة عن مبدأ الحساب مع القتلة المغتصبين واللصوص . ممزقي الوطن وقتلة أبنائه و تشريدهم و تفقيرهم . قائمة طويلة من المظالم يتنظر الضحايا و أهاليهم الحساب مع الجناة . حالة من الغبن الشديد استشري في نفوس البعض وهو الأمر الذي جعلهم لم يميزوا بين الاتفاق الإطاري للشروع في الحوار والاتفاق النهائي للوصول إلى النتيجة !
في الحقيقة الناس محقون في طرح مثل هذه الأسئلة . و انا أحدهم . لكون طوال تاريخ السودان لم يحدث أن تم محاسبة مرتكبي الجرائم . فقط يتم طي صفحة أي نظام سابق باستلام المواقع . وتنتهي الأمور بافلات المجرمين من الحساب . نظام إبراهيم عبود العنصري الانقلابي لم يحاسب فيه أحد رغم أنهم كانوا يقتلون ويقصفون الشعب في جنوب السودان و فرضوا الدين و اللغة اجباريا علي أسس نازية فاشية . وكذا الحال مع نظام جعفر نميرى الذي فعل كل قبيح بحق الشعب و البلاد من نهب و قتل و عنصرية . وقد ارتكبت جرائم حرب و جرائم ضد الإنسانية في الجزيرة أبا و دارفور و الجنوب كذلك وبل كان جعفري نميرى متاجرا بالدين. حيث استخدمه شريعته البغيضة في قطع أطراف الأبرياء و المهمشين . والجريمة الاخري التاريخية . الذي ارتكبه نظام نميرى و لم يحاسب فيها هو إعدام شهيد الفكر و العقل الأستاذ الشهيد محمود محمد طه الذي أعدم جورا وظلما بحكم ما يمسي بالردة !
فلقد تعاظمت الجرائم بشدة في السودان . و أي افلات من الحساب لن يكون مقبولا لذلك انا هنا اضم صوتي مع الجميع بأن لا افلات من المساءلة و الحساب .
فهناك الكثير من الطرق لمحاسبة . ليس فقط كما أعضاء النظام الذين يتخوفون من الأعدام والشنق و السجون . فالحساب يمكن أن يأتي من خلال المساءلة بحضور الضحايا . كما حدث في جنوب أفريقيا. و رواندا . فبالتالي أي كان نوع الحساب فلابد منها .
ولا أعتقد بأن الموقعين على هذه الخارطة عندما تكتب لها النجاح قد يتجاهلون مبدأ محاسبة المجرمين . فهو مبدأ راسخ عند كل القيادات الذين أعرفهم جيدا وقد كانوا من الموقعين !
السؤال الآخر الذي يفرض نفسه الآن !هل ستصمد وثيقة الإتفاق حتى النهاية ؟!
هل ستصمد هذه الوثيقة حتي النهاية لإخراج الوطن من كوه الجحيم هذا أم ستنهار ليواجه الجميع حقيقة النظام الذي افلس تماما و واقف في محطة واحدة وهو ” أما سيبقي الي ماشاء الله أو فاليحترق الجميع ” خوفا من المحكمة الجنائية الدولية و مطاردات قادة النظام المتهمين بتدابير محاولات اغتيال بحق رؤساء الدول المجاورة . فالنظام. يريد الانتحار لأن سقوطه يعني خلوده في مزبلة التاريخ مع أفسد الفاسدين والقتلة والسفاحين و الجبناء . و تجار الدين
في تقديري هنا أعتقد بأن صمود الوثيقة نسبتها ضئيلة ونسبة انهيارها أكبر
ماذا سيحدث اذا تعثرت الوثيقة أو انهارت ؟!
في الحقيقة اذا انهارت أو تعثرت الوثيقة . انا مقتنع تماما بأن لا لوم علي الموقعين .بل اللوم سيقع علي النظام المجرم الذي يريد البقاء في السلطة لحماية قياداته من المطاردات .
فإذا انهارت الوثيقة هناك طريقين فقط . لا ثالث لهما
الأول هو. إن يجتمع كل القوي الثورية المسلحة و السياسية
في مكان واحد والدعوة للخروج الكبير وفي وقت متزامن الإعلان عن تشكيل حكومة انتقالية من طرف واحد . واجبار المجتمع الدولي علي الاعتراف بالحكومة المعلنة . فاليواجه النظام حقيقته .
لا مفر من ذهاب هذا النظام بكل الطرق المشروعة للشعب
سواء كان حوارا أو حربا أو ثورة سلمية !
فالايام حبلى بالكثير !